[الزهد عن الدنيا من شعب الإيمان]
قال: [وعنه قال: إن الله قسم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم]، فالأخلاق رزق كالطعام والشراب، الأخلاق رزق والمنطق رزق، لسانك الذي في فمك هو رزق من السماء، إما أن يكون حلواً لذيذاً يقطر عسلاً أو يقطر سماً وهو اللسان في نهاية أمره، وشتان بين منطق كل لسان واللسان الآخر، فهذا يقطر سماً وهذا يقطر عسلاً، هذا أديب، وهذا فصيح، وهذا بليغ، وهذا مفسر، وهذا محدث، وكل ذلك إنما تظهر آثاره على اللسان.
قال: [وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن يبغض]؛ لأن الدنيا لا قيمة لها، ولا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، وهذا من هوان الدنيا على الله.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام عاش حياته كلها يحذر أصحابه الفتن، ومنها وأعظمها فتنة الدنيا، أن يفتن المرء بأي فتنة من فتن الدنيا، فتنة النساء، فتنة المال، فتنة الجاه، فتنة السلطان، كل هذا من فتن الحياة الدنيا.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والله لا أخشى عليكم الفقر) أو (ما أخشى عليكم الفقر ولكني أخشى أن تفتح عليكم -أي: الدنيا- فتنافسوها كما تنافسوها -أي: كما تنافسها من كان قبلكم- فتهلككم كما أهلكتهم).
فبين عليه الصلاة والسلام أن الدنيا مهلكة، وقال أيضاً: (ويقول الإنسان: مالي مالي مالي، وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، ولبس فأبلى)، فالذي هو حريص على جمع المليارات هو يحب من؟ ميمون بن مهران رضي الله عنه ورحمه يقول: عجبت لجامع الدنيا يحاسب عليها مرتين، يعني: يحاسب على ماله مرتين، أو قال: يسأل عنه مرتين، يتركه كله ويسأل عنه كله.
ولو أنه جمعه من حلال وأدى حق الله فيه فنعم المال الصالح للعبد الصالح، لكن الحذر كل الحذر لمن يجمع الدنيا من حل وحرام من أجل أن يبقى عنده مال، فلو لبس أحسن الملابس، وركب أحسن المراكب، وأكل أفخر الطعام، فلا بد أنه سيترك المال لورثته، ثم يسأل عن هذا المال كله يوم القيامة، فيشقى به حياً وميتاً.
في الوقت الذي لا تضمن فيه أن هذا المال ربما يكون سبباً لفتنة أبنائك، فما وجدت أعظم من أن يعرق الإنسان بجبينه في جمع لقمة عيشه، وإذا أتت الدنيا إلى آحاد الناس بسهولة لا بد أنها تذهب عنه كذلك بسهولة، الإنسان منا لو أنه جد واجتهد في جمع الدينار والدرهم لا بد أنه يحافظ عليه ويفكر ألف مرة قبل إنفاقه.
أما إنسان انتقلت إليه الملايين أو الألوف عن طريق الميراث مثلاً أو الهدايا أو المنح والهبات فإن هذا المال يكون أهون عليه من أن يفكر مرة واحدة حين إنفاقه، ولذلك فإن أصحاب الأعمال هم أنجح الناس، كالذي يعمل بمسحاته وفأسه وفي مصنعه وفي شركته بيده ويبيت في ليله مكدوداً من عمل يده طول النهار، فهؤلاء هم أنجح الناس وهم الرجال وعليهم اعتماد الأمة.
أما هؤلاء المرفهون المترفون الذين يرتعون في أموال آبائهم وأمهاتهم لا يدرون من أين أتت هذه الأموال فهم كذلك لا يدرون كيف ينفقون هذه الأموال، وإننا لنعلم أطفالاً مصروف أحدهم يبلغ مائتي جنيه، وهذا في اليوم الواحد وليس في الشهر؛ ولذلك فسد هذا الولد وشرب الخمر، وتعرف على النساء وانحرف أيما انحراف، فكل مجالات الانحراف انحرفها.
فلما استدعانا أبوه لنكلم الولد قلت له: أنا منذ أن رأيت هذا الولد لا يطمئن قلبي له ولا لك، قال: وهل آذاك أحدنا؟ قلت: أنت قد آذيت نفسك وآذيت أمتك، لما دخل عليه الولد وقال: أعطني مصروفي، فناوله الأب خمسين جنيهاً، -أنا قلت: ليتني ابنه- وإذا بالولد يقذف بالخمسين جنيهاً في وجه أبيه، فقلت له: لماذا يا بني عملت هذا؟ قال: أنا مصروفي مائتي جنيه.
وكان من قبل أبوه يشكو لي ظروف الحياة، فقلت: ماذا تعمل؟ قال: أنا مدير بنك، قلت: تأخذ كم؟ قال: سبعة آلاف جنيه، فقلت: وتشتكي ظروف الحياة، والإخوة يعملون في المحلات في مقابل مائتين أو ثلاثمائة جنيه في الشهر، وابنك يأخذها مصروفاً في اليوم، قال: أنا مضطر أن أعطيه.
وأعطاه مائة وخمسين جنيهاً، قلت: لا بأس أن تقبل يده من أجل أن ترضيه؛ لأنه ممكن أن يغضب، ويخرج غضبان، قال: إذا لم يأخذ مني مائتي جنيه فإنه سيأخذ السائق ويذهب معه إلى المصنع، وهناك يأخذ بالقوة ما يشاء من خزينة المصنع.
انحرف الولد انحرافاً ما بعده انحراف، ومع هذا كان يتمتع بذكاء خارق، حتى كان أبوه يرسله إلى أعمامه وأخواله وإخوانه في أمريكا وأوروبا لوحده، وعنده من العمر ستة عشرة أو سبع عشرة سنة.
فإذا بهذا الولد ينقلب بزاوية (١٨٠) درجة على والده وعلى والدته فيلقيهما أشد أنواع العذاب، حتى دعا عليه أبوه، وكان دائماً يدعو عليه لما كبر الولد صار الأب من فرط ما تأذى بولده يدعو عليه.
وفي يوم من الأيام اتصلت به شرطة المرور من طريق الصحراوي وقالوا له: أنت فلان؟ قال: نعم، قالوا: وجدنا سائق سيارة مرسيدس نوعها كذا وموديلها كذا، قال: نعم، قالوا: ولك ابن اسمه كذا، قال: نعم، قالوا: تفضل استلمه فإنه مقتول في سيارته، وهذا فعلاً هو نهاية سوء التربية.
قا