قبل بدعة القدر هناك بدع أخرى في زمن علي بن أبي طالب، وعلى جهة الخصوص سنة (٣٧هـ)، وذلك لما وقع الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فانبرى لـ علي أناس، وانبرى لـ معاوية أناس آخرون، فتمزق شمل المسلمين إلى فريقين: فريق مع علي بن أبي طالب، وفريق مع معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية كان مجتهداً متأولاً له الأجر من الله عز وجل، وعلي كان مجتهداً وافق اجتهاده منهاج النبوة، فهو مأجور أجرين من الله عز وجل، لكن كان لابد من وقوع هذه الفتنة؛ لأن لها جذوراً وأصولاً.
ولذا لما قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالتحكيم تحت ضغط شيعته -أي: تحت ضغط أتباعه- وهو يعلم أن هذا التحكيم ما هو إلا لعبة فقط، قالوا له: يا علي! ما بالك لا تقبل التحكيم إلى كتاب الله؟ وقالوا: إما أن تقبل وإما أن ننصرف عنك، فقبل التحكيم تحت ضغط شيعته، ورفعوا المصاحف على أسنة الرماح، وعلي بن أبي طالب يعلم أن هذا حق أريد به باطل، لكن أشياعه لم يقبلوا ذلك منه حتى رضخ إلى رأيهم، فلما كانت النكبة والنكاية بعد ذلك أنكروا على علي بن أبي طالب قبوله للتحكيم، رغم أنهم هم الذين ضغطوا عليه، فقالوا: كيف تقبل حكم الرجال؟ وخرجوا عليه، وقالوا:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}[الأنعام:٥٧]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:٤٤]، فأنت لم تحكم بما أنزل الله، ولم تحتكم إلى ما أنزل الله، وإنما احتكمت إلى الرجال، فخرجوا على علي بن أبي طالب وانشقوا عنه بعد أن كانوا معه، فسموا حينئذ بالخوارج.
ولذا فبدعة الشيعة وبدعة الخوارج كانت في الترتيب الزمني أسبق من بدعة القدر، والشاهد من هذا: أنه كلما كانت شوكة الإسلام قوية، وكان ذو منعة، كلما انطمست وخمدت الفتن، خاصة إذا كان السلطان صاحب دين، وصاحب شوكة وقوة ومنعة يستطيع بها أن يضرب المبتدع على أم رأسه، عند ذلك يكون الإسلام حينئذ في عافية وستر، وأمان وسلامة.
أما إذا كان السلطان في واد والإسلام في واد آخر، ولا علاقة بينهما، وإنما هو يدور مع نفسه حيث دار -أي: حيث دار هو- خلافاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام:(إن القرآن والسلطان سيفترقان، فدوروا مع القرآن حيث دار).
فإذا كان السلطان يدور مع نفسه، والقرآن في واد آخر، فلابد وأن يأتي الضعف؛ لأن الناس لا يصلحهم إلا أمير يتأمر عليهم، ووال يترأس عليهم ويوجههم ويرشدهم حتى وإن كان فاجراً، ولم يكن هناك أفجر من الحجاج بن يوسف الثقفي، حتى قال عنه عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهم: لو أتت كل أمة بخبيثها وأتينا بـ الحجاج لغلبناهم.
وهذا يدل على أنه كان أخبث الخلق ممن انتسب إلى أهل القبلة، ومع هذا فإن الأمر الآن لا يصلح إلا بمثل الحجاج يا ليت! يوماً من أيام الحجاج رغم تجاوزاته، إلا أنه كان من أهل القرآن، ومن أهل البلاغة والفصاحة والبيان، وكان محباً للقرآن والسنة، لكنه كان في العقاب يتجاوز إلى أقصى حد، وقد أنكرت عليه أمه ذات يوم صنيعه، فأخذها إلى السوق وحمل معه سيفه ودخل، فكان يدخل على البقال، وعلى صاحب القماش، وعلى الجزار، وعلى فلان وعلان، فيقلب البضاعة إذا رآها معيبة من الداخل جميلة من الظاهر، وينظر إلى أمه فيقول: أهذا دين محمد؟! فتقول: لا، فيخرج سيفه ويضرب رقبته، فيقول لها: هذا الذي دعاني إلى تأديب الناس، وإن كان ذلك بالقتل.
ولا شك بأن الذي يغش المسلمين لا يستحق القتل، بل يستحق التأديب والتعزير والتوبيخ، لكنه تجاوز في العقاب ولم يكن فقيهاً، وإنما كان محباً للفقه وأهل العلم خاصة حملة القرآن الكريم، ومع هذا لم ينج منه لا حملة القرآن ولا حملة السنة، وهذا ليس دفاعاً عن الحجاج، فإنني أبغضه ولا أحبه، وأبعده ولا أقربه، لكن كما ورد في ترجمته حتى من الشانئين المبغضين له أنه ما كان يفعل ذلك إلا حرصاً على دين الله عز وجل.
ولذا فهذه الأمة لا يصلحها إلا مثل عمر ليردها مرة أخرى، وليثبت لها العز في هذا الزمان بعد أن باتت في الذل وفي وحل الهوان تحت أقدام اليهود والنصارى.