الجواب الذي أجابت به أم سلمة قد أجاب به ربيعة الرأي، وأجاب به مالك كذلك، فقد جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته -يعني: ما رأيته غضب غضباً شديداً إلا عندما وجه إليه هذا السؤال- وعلاه الرحضاء، يعني: العرق، وهذا يدل على أن هذا السؤال لم يطرح في عالم السلف، وكان بالنسبة لـ مالك كصاعقة نزلت على رأسه.
قال: وأطرق القوم، وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه، فلما سري عن مالك قال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول -يعني: معلوم لدينا أنه استوى بمعنى: علا وارتفع- والإيمان به واجب على ما جاءت به النصوص من غير تأويل ولا تحريف، والسؤال عنه بدعة.
فالسؤال عن كيفية صفات المولى تبارك وتعالى بدعة؛ لأن أمرها موكول إلى الله عز وجل، فلا يحل لأحد أن يسأل عن كيفية صفات المولى عز وجل؛ لأن الذي يسأل عن كيفية الصفات لا بد أن يسأل عن كيفية الذات، فالله له وجه يليق به ليس كوجوه المخلوقين، وله ساق تليق به ليست كسوق المخلوقين، وله نفس لكن ليست كأنفس المخلوقين، وفي النهاية نعلم أن ذات المولى تبارك وتعالى تختلف عن ذوات المخلوقين؛ لأنها تابعة للخالق.
قال: والسؤال عنه بدعة؛ فإني أخاف أن تكون ضالاً، فأمر به فأخرج من المسجد.
وهنا وقفة طيبة جداً: أن من سأل عن شيء تورع عنه السلف؛ فلا بد أن يعلم أن هذا أول الطريق للضلال، خاصة إذا كان تعلقه بالمولى عز وجل بذاته أو صفاته من جهة الكيفية، لا من جهة العلم والمعنى، ألسنا دائماً نردد هذا الشعار: ما وسع السلف يسعنا؟ لكن لماذا في الأسماء والصفات لم يسعنا ما وسع السلف؟ لماذا السلف سكتوا عن تكييف صفات المولى عز وجل ونحن لا نريد أن نسكت؟ فالسلف وسعهم أن يؤمنوا ويصدقوا بهذه الأخبار التي أثبتت أن لله تبارك وتعالى صفات تليق بجلاله وكماله، لماذا نحن لا نريد أن نسكت؟ ولماذا الأمة كلها لم تسكت، وخاضت في الأسماء والصفات؟ فمنهم من عطل المولى تبارك وتعالى وحرَّف الكلم عن مواضعه، بحيث يصل بهم الحال في النهاية إلى أنه لا يوجد شيء اسمه إله متصف بصفات؛ لأن اليد عندهم هي القدرة، والعين هي الرعاية، وغير ذلك من تحريف وتأويل الصفات عن معناها اللائق بالله عز وجل؛ هؤلاء معطلة.
ولذلك إذا سألت: أين إله المعطلة؟ سيظهر عندهم أنه إله بلا ساق وبلا يد وبلا عين وبلا وجه وبلا ذات، وصدق ابن تيمية عليه رحمة الله لما قال: المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً؛ لأن الممثل والمشبه قالا: الله تعالى له يد كيدي، وله عين كعيني؛ فنصل في النهاية إلى أن ربنا عبارة عن شخص من الأشخاص، وذات من ذوات المخلوقين؛ ولذلك قال ابن تيمية: وكل ممثل يعبد صنماً؛ لأن الصنم معلوم لديه، فهذا القول من أفضل أقوال ابن تيمية: الممثل يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً.
فالممثل والمشبه لصفات المولى تبارك وتعالى بصفات المخلوقين ينتهي إلى أن هذا الإله هو عبارة عن إنسان، والمعطل الذي أراد بزعمه أن ينزه المولى تبارك وتعالى عن منهج المجسمة والممثلة والمشبهة نفى تلك الصفات عن الله عز وجل، فأصبح عندهم في النهاية إلهاً بلا صفات، وبهذا وقعوا فيما فروا منه، وقعوا في شر لكن من نوع آخر.
وأهل السنة والجماعة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، لا يعطلون صفات المولى تبارك وتعالى، بل يثبتونها، ولكن ليس على مذهب المثبتة الممثلة المشبهة، وإنما يؤمنون بما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله على الوجه اللائق بكماله وجلاله، فهم يفارقون المشبهة ويفارقون في الوقت نفسه الممثلة.