قال:[فمنها: أنه أوتي جوامع الكلم]، وأرجح الأقوال في معنى جوامع الكلم: أنه القرآن الكريم، لكن لا يمنع أن يكون جوامع الكلم في كلامه عليه الصلاة والسلام، فهو من أحسن الناس منطقاً، ومن أبينهم وأفصحهم في لغة العرب، ولذلك كان الواحد منهم إذا عجز أن يأتي بكلام يشبه كلام الله عز وجل إنما يأتي بكلام يظن أنه يشبه كلام النبوة، ولا يفلح في ذلك كذلك.
ومعنى جوامع الكلم: الكلام القليل المبنى الكثير المعنى، آية تتكون من كلمتين أو ثلاث كلمات، أو حديث يتكون من كلمتين أو ثلاث كلمات، فإذا به قاعدة عظيمة تصلح لفض المنازعات والخصومات إلى قيام الساعة.
فمثلاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) إلى آخر حديث عمر رضي الله عنه، هذا كلام عظيم يضبط مسائل النيات الصالحة وغير الصالحة، ويرتب الثواب والعقاب عليها، ويرتب الصلاح والفساد عليها، وغير ذلك إلى قيام الساعة في أعمال العباد، فإذا أردت أن تحتج على صحة العمل أو فساده أو على الثواب والعقاب فإنما حجتك هذا الحديث:(إنما الأعمال بالنيات)، حتى صار هذا الحديث مثلاً دارجاً على ألسنة العوام.
مثال آخر: قوله عليه الصلاة والسلام في عالم القضاء: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، هذه قاعدة في القضاء تصلح لفض النزاع إلى قيام الساعة، فالقاضي لا يأمر المدعى عليه باليمين إلا إذا عجز المدعي عن إتيانه بالبينة، والمطلوب من المدعي أن يبرز البينة ولا يمين عليه.
هذه قاعدة عامة، وأنتم تعلمون أن بعض أهل العلم كـ ابن رجب الحنبلي والإمام النووي وغيرهم من أهل العلم اعتنوا عناية فائقة بكلامه عليه الصلاة والسلام، فكل كلامه يصلح أن يكون قاعدة تضبط أمراً من الأمور إلى قيام الساعة.
فجمع الإمام النووي عليه رحمة الله ما ظن أنه من جوامع الكلم، فبلغ أربعين أو أربعين ونيفاً، ثم جاء من بعده ابن رجب الحنبلي وزاد عليه عشرة من الأحاديث وهي المعروفة بجامع العلوم والحكم، فهذه الأحاديث كلها من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، كلام قليل المبنى كثير المعنى يصلح أن يكون قواعد ثابتة راسخة إلى قيام الساعة.