[النهي عن التبتل والاختصاء والغلو في الدين]
قال: [أخبرنا حميد أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم لله، فمن رغب عن سنتي فليس مني)]، فهذه سمة من سمات السواد الأعظم وهم أهل السنة والجماعة، أنهم معتدلون في التمسك بالسنة فلا يغالون فيها ولا يجافون عنها.
وهذا الحديث له مناسبة: لما ذهب ثلاثة نفر إلى بيت من بيوت النبي عليه الصلاة والسلام فسألوا عن عبادته، فلما أخبرتهم عائشة رضي الله عنها بعبادة النبي عليه الصلاة والسلام كأنهم تقالوها، قالوا: هذه عبادة قليلة، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس مثلنا، فهو رجل قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيعبد أو لا يعبد، قد أخذ الوعد من الله عز وجل ألا يعذبه بل يدخله الجنة، وأما نحن فإننا نحتاج إلى عبادة بل وإلى مشقة في العبادة حتى نحظى بشيء مما حظي به النبي عليه الصلاة والسلام، قالوا: لابد أن نكلف أنفسنا أعظم من ذلك من الأعمال والعبادة والصلاح والتقوى والطاعة وغير ذلك، فأما أحدهما فقال: (إني لا أتزوج النساء قط.
وأما الثاني فقال: فإني لا أنام على فراش قط.
والثالث قال: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر) وظل كل واحد منهم يتزهد زهداً لم يؤمر به، حتى ذهب بعضهم واستأذن من النبي عليه الصلاة والسلام وهو عثمان بن مظعون رضي الله عنه في الاختصاء، حتى لا يكون له رغبة في النساء، وينقطع للتبتل؛ أي: ينقطع للعبادة.
قال: [قال: أنس رضي الله عنه: (استأذن عثمان بن مظعون النبي عليه الصلاة والسلام في الاختصاء ولو أذن له لاختصينا)]، ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يأذن.
لماذا طلب عثمان بن مظعون هذا؟ لأجل أن ينقطع للعبادة فلا يكون له رغبة في النساء، فالمرأة التي تسل مبايضها لا ترغب في الرجال، والرجل الذي يختصي لا يرغب في النساء قط، وإنما حمل عثمان بن مظعون على مثل هذا الطلب أنه أراد أن ينقطع للتبتل، والتبتل هو الانقطاع للعبادة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن له بذلك؛ لأن الدين الإسلامي وسط بين الروحانية وبين المادية، فلابد للبدن من حاجة ولابد للروح والقلب من حاجة، ولذلك رد النبي عليه الصلاة والسلام على عثمان بن مظعون هذا الطلب.
فهؤلاء القوم لما أتوا إلى بيت من بيوت النبي عليه الصلاة والسلام وطلبوا منه ذلك الطلب أو سألوا عن عبادته فتقالوها، خرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (ألستم القوم الذين قلتم: كيت وكيت.
قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له).
ومن الذي يشك أن أفضل الخلق على الإطلاق هو النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما حاز على هذه الأفضلية إلا بتقواه وطاعته لله عز وجل.
(أما إني أخشاكم لله وأتقاكم لله وأعلمكم بالله).
وفي رواية البخاري، ومسلم: (أما إني أتقاكم لله وأعلمكم بالله) أي: من جهة العلم والعمل، فهو من حيث العلم بالله فهو أعلم الخلق، ومن حيث التقوى هو أتقى الناس علماً وعملاً.
قال: (ولكني أصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وأنام وأصلي؛ فمن رغب عن سنتي) أي: زهداً فيها حباً في غيرها (فليس مني).
أي: قد اتخذ سنة غير سنتي، واهتدى بهدي غير هدي، ولاشك أن هذا ضلال وانحراف.
فلابد من التمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام على المراد الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد من التمسك بكتاب الله على مراد الله عز وجل، وليس على مراد أحد، وليس على مراد عالم من العلماء فضلاً عن عامي من عامة الناس، فلابد من التمسك بكتاب الله على مراد الله، ومن التمسك بالسنة على مراد صاحبها عليه الصلاة والسلام، فلا يجتهد أحد اجتهاداً مخلاً بالآداب والأخلاق والسلوكيات التي أمرنا بها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الحديث أيضاً ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما.