[قول عبد الله بن عباس في إثبات القدر]
قال: [يقول طاووس -تلميذ ابن عباس -: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: العجز والكيس بقدر].
أي: النشاط والقدرة والقوة وكذلك الضعف والخوف كل ذلك بقدر الله عز وجل.
قال: [وعن ابن عباس قال: لو أخذت رجلاً من هؤلاء الذين يقولون: لا قدر لأخذت برأسه وقلت: لولا ولولا.
وقيل لـ ابن عباس: إن ناساً يقولون في القدر -أي: أنهم يتكلمون في القدر ويقولون: لا قدر- وأن الأمر أنف، أي: أن الله تعالى لا يعلم الأمر إلا بعد وقوعه].
ونحن نعلم أن الإنسان لا يعلم الأشياء المستقبلية التي غابت عنه أو غابت عنه أسبابها حتى تقع؛ ولذلك لو حدث شيء الآن لقلنا: سبحان الله! كيف حدث؟ لم يكن عندنا علم ولا أسباب سبقته ولا غير ذلك، فالذي علم ذلك في الأزل هو الله عز وجل، فهناك أناس يتكلمون في القدر ويقولون: إن الأمر أُنف، أي: أن الله تعالى لا يعلم ما سيكون.
وهذا فيه تسوية للخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى.
قال: [قيل لـ ابن عباس: إن ناساً يقولون في القدر، قال: يكذبون بالكتاب؟ -أي: يكذبون بالكتاب الذي أثبت العلم الأزلي لله عز وجل؟ - لئن أخذت بشعر أحدهم لأنصونه -أي: لأقطعنه- إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً فخلق القلم -أول المخلوقات- فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة].
فالذي أمر بأن يكتب كل شيء كائن إلى يوم القيامة عالم أم لا؟
الجواب
عالم سبحانه وتعالى.
قال: [فإنما يجري الناس على أمر قد فُرغ منه].
أي: أن الذي يفعله الناس اليوم مقدر في الأزل، وأن الله تعالى علمه من عباده وخلقه؛ فقدره عليهم وكتبه عليهم، هذا من أهل السعادة وذاك من أهل الشقاء.
قال: [وقال ابن عباس: القدر نظام التوحيد]، أي هو سلوك الموحدين وطريقهم؛ لأن من كفر بالقدر فقد كفر بالتوحيد وكفر بالله عز وجل؛ ولذلك أفردته النصوص بإلزام الإيمان به، فلما سأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) فلم يعطف القدر على بقية أركان الإيمان وإنما أفرده (قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله) ولم يقل: وأن تؤمن بالملائكة، وأن تؤمن بالرسل، وإنما قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر) فعطف هؤلاء جميعاً على قوله: (أن تؤمن) ثم أفرد القدر.
قال: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)، فلا يصح إسلام العبد ولا إيمانه إلا إذا آمن بالقدر خيره وشره، وأن القدر خيره وشره من عند الله عز وجل، ولكن الله تعالى أراد من عباده الخير وكلفهم به وألزمهم بإتيانه وأثابهم عليه، وأن الشر يقع في الكون بإرادة الله وإذنه مع أن الله قد نهى عنه، وغضب وسخط على من يأتي الشر أو المعصية، لكن هذا لا يُفهم منه أن الخير من الله وأن الشر من الناس.
فيكون الشر من خلق الله عز وجل، ومعنى (من خلقه) أي: أن الله تعالى أذن في وجوده ووقوعه في الكون، وإلا لو أراد رجل أن يزني فقال: أنا أزني رغماً عن الله عز وجل.
هل يستطيع ذلك؟ أبداً لا يستطيع، إذا كان الله لم يقدر هذا الزنا؛ لأن الزنا لا يقع إلا إذا أذن الله تعالى به، وإن كان الله تعالى حرمه فما قصة وقوعه بقدر؟
الجواب
لأنه لا شيء يقع في كون الله إلا إذا أمر الله تعالى به أو إذا قدره وأراده إرادة كونية قدرية لا إرادة شرعية دينية.
فالإرادة الشرعية الدينية مبناها على المحبة والرضا كما اتفقنا، فإن الذي يصلي فيقوم ويركع ويسجد ويجلس ويسلم يمنة ويسرة كل ذلك بقدر، والله تعالى يحب ذلك؛ لأنه خير والله تعالى أمر به، والذي يخطو خطوات لأجل السطو على أموال الغير أو قطع الطريق أو الزنا أو شرب الخمر أو غير ذلك، هل يستطيع عبد أن ينقل قدماً وأن يحط أخرى إلا بقدر، فإن الذي يمشي إلى الصلاة يمشي بقدر، وإن الذي يمشي إلى السرقة يمشي كذلك بقدر، ولكن الله تعالى يحب المشي إلى الصلاة ويبغض المشي إلى السرقة والكل بقدر الله عز وجل، فإن الله تعالى قدر المشي إلى الصلاة وأمر به وأذن في وقوعه في كونه وأثاب فاعله على ذلك؛ لأنه أطاع الأمر، وفي المقابل الذي يخطو هذه الخطوات للسرقة الله تعالى أذن له وقدر له هذه الخطوات، مع أن الله تعالى أفرغ عذر هذا الرجل بأن أرسل له الرسل وأنزل عليهم الكتب، وبلغته الدعوة، وحذره وبين له أن هذا شر بناء على العقل السليم الذي ركبه في رأسه، وإلا لو زنى مجنون هل يؤاخذ؟ ولو سرق مجنون هل يؤاخذ؟ لو شرب الخمر مجنون هل يؤاخذ؟ لا، ولكن الله تعالى جعل العقل مناط التكليف.
ولذلك لو أتيناك بطريقين أحدهما قد امتلأ شوكاً، والآخر قد امتلأ ورداً وقلنا: اسلك أحد الطريقين وكلاهما يبلغ إلى المكان الفلاني أو الغرض الفلاني، فأي الطريقين تسلك أنت؟ الجواب: طريق الورد، فلو سألناك: لِم سلكت هذا الطريق وتركت الثاني؟ لقلت: إن هذا ممهد موطأ معبد، وإن هذا قد امتلأ شوكاً.
فالذي جعلك تميز بعقلك السليم بين هذا وذاك يجع