[ما روي عن النبي في الحث على التمسك بالكتاب والسنة]
أورد الإمام هنا حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه يقول: [(وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة دمعت منها الأعين، ووجلت منها القلوب.
قلنا: يا رسول الله! إن هذه موعظة مودع فبم تعهد إلينا؟ قال: قد تركتكم على البيضاء)] شبه الشريعة بقطعة القماش البيضاء، أو بالنهار الذي لا خفاء فيه؛ وأن الحق أبلج واضح، كلما أردت أن تصل إلى الحق تصل إليه بإذن الله؛ لأنه بين وواضح.
وقال: [(تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها)] لا يخفى الحق فيها أحياناً ويظهر أحياناً وإنما هو واضح وظاهر في كل وحين.
قال: [(قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يرجع عنها بعدي إلا هالك)] وهذا وعيد وتحذير.
أي: لا يضل عنها بعدي إلا هالك.
[(ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فتناً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن كان عبداً حبشياً، وإن المؤمن كالجمل الآنف حيث ما قيد انقاد).
وقال عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية: وكان ممن أنزل الله فيهم قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة:٩٢]]؛ لأنهم كانوا يأتون النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يجهزهم للقتال، فقال لهم: أنا ليس عندي ما أملك تجهيزكم به، فتولوا وذهبوا إلى بيوتهم وهم في غاية الهم والحزن، فنزل فيهم وفي صدقهم قوله تبارك وتعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة:٩٢] أي: لتجهزهم للقتال {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:٩٢]، ورجعوا {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التوبة:٩٢].
[قال: فدخلنا فسلمنا عليه وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين].
كأنه مرض (ومقتبسين) أي: وطالبين للعلم.
الاقتباس هو الأخذ، ولكن لفظ (اقتبس) أبلغ في المعنى وفي شدة النزع من لفظ (نطلب أن نتعلم) أو غير ذلك.
فقال: قال صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو عاصم: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح يوماً فأقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب.
قال: قلنا: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا - قال أبو عاصم في حديثه: فأوصنا- قال: أوصيكم عباد الله! بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم فسيرى بعدي اختلافاً كثيراً، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)].
الحديث السابق شرحناه في خطبة جمعة، (وإنما المؤمن كالجمل الآنف حيثما قيد انقاد) هذه المسألة فيها نزاع.
قال: [عن جابر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أما بعد: فأحسن الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) أخرجه مسلم].
قال: [عن ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما هما اثنان: الكلام والهدى، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور، وإن شر الأمور محدثاتها، وإن كل محدثة بدعة، ألا لا يطول عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم)].
يعني: أنا أخوفكم من طول الأمد فتتحولون عن التمسك بالسنة إلى الابتداع في الدين فتهلكوا.
قال: [قال عبد الله: إن أحسن الهدى هدى محمد عليه الصلاة والسلام، وإن أحسن الكلام كلام الله، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم -أي: ستبتدعون ويبتدع لكم- فكل محدث ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وأتى بصحيفة فيها حديث -أي: فيها حديثه هو، فقد كان يكتب حديثه في صحائف- قال: فأمر بها فمحيت، ثم غسلت تلك الصحيفة، ثم أحرقت في النار، ثم قال: بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، أنشدت الله رجلاً يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أني أعلم أنها بديرهم لتبلغت إليها].
اختلف أهل العلم من السلف والخلف في جواز كتابة الحديث من عدمه، فمنهم من قال بعدم الجواز، ومنهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد كان يأمر تلاميذه أن يأتوا بما عندهم من صحف، وكان إذا علم أن فلاناً عنده الصحيفة ولم يأت بها لم يجلسه في مجلسه، فإذا جيء بالصحيفة من عند أي طالب أو تلميذ لذلك الإمام أمر بطست فيه ماء، فوضع الصحيفة فيها، ثم غسلها غسلاً، ثم عرضها للشمس حتى تجف، ثم يحرقها بعد ذلك، ويقول: خذوا من حيث أخذنا، واحفظوا كما حفظنا، فإنما العلم في الصدور لا في السطور.
ولا شك أن هذه وجهة نظر عظيمة جداً؛ لأن المرء لو