[الوجه الثاني: أن ذلك يتنافى مع الإخلاص لله تعالى في العبادة]
الوجه الثاني: أن اعتقاد أن الموتى يسمعون يتنافى مع الإخلاص لله تعالى في دعائه وعبادته وحده، وفي ذلك آيات كثيرة صريحة في النهي عن دعاء غير الله تعالى من الأولياء والصالحين، ومنها قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٢ - ٢٣].
قال ابن تيمية عليه رحمة الله: ومثل هذا في القرآن كثير، ينهى أن يدعى غير الله، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك، بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من الدعاء والشفاعة، فإنه لا يفضي إلى ذلك، فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يُعبد في حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك، بخلاف دعائهم بعد موتهم فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك.
وابن تيمية يقصد أن هناك فارقاً كبيراً جداً، فمن الناس من يطلب الدعاء من النبي عليه الصلاة والسلام، أو يطلب الشفاعة أو الوساطة في قضاء مصلحة ما من النبي عليه الصلاة والسلام، كمن جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رسول الله! استغفر لي)، فهذا ليس شركاً، لكن لو أن واحداً أتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! استغفر لي فإن هذا شرك.
إنَّ النبي عليه الصلاة والسلام يشفع للأمة، والأنبياء يشفعون، والصالحون يشفعون، والملائكة يشفعون بغير أن يطلب أحد منهم الشفاعة، فهل هذه الشفاعة شرك؟
الجواب
لا؛ لأنهم إما أن يشفعوا في حياتهم الدنيا، أو يشفعوا في حياتهم الأخروية، المهم أنهم يشفعون في حال الحياة.
فلا شك أن هناك فارقاً كبيراً جداً بين من يدعو الميت ويطلب منه جلب النفع ودفع الضر وبين من يطلب شفاعة الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين.
ثم هو يحتج كذلك بأن الصحابة إنما كانوا يسألون النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، ولم يثبت أن واحداً من أصحابه سأله بعد موته، فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له: ادع لي، لم يفض ذلك إلى الشرك، بخلاف من دعاه في مغيبه فإن ذلك يفضي إلى الشرك؛ فالغائب والميت لا ينهيان من يشرك، فإذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك، فدعي وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون، ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين.
ومعلوم أن الملائكة تدعو للمسلمين وتستغفر لهم، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:٧] فالذين آمنوا لم يطلبوا من الملائكة أن يستغفروا لهم، وإنما استغفروا لهم ابتداءً: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:٧].
فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد.
وكذلك ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام -أو غيره من الأنبياء والصالحين- يدعو ويشفع للأخيار من أمته، وهذا من جنس العمل، فهم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد من الناس.
وقال ابن تيمية: وكذلك الأنبياء والصالحون وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قدر أنهم يدعون للأحياء وإن وردت به آثار فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بالله وعبادتهم من دون الله تعالى، بخلاف الطلب من أحدهم في حياته، فإنه لا يُفضي إلى الشرك؛ ولأن ما تفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون هو بالأمر الكوني لا بالأمر الشرعي، فلا يؤثر فيه سؤال السائلين، بخلاف سؤال أحدهم في حياته فإنه يشرع إجابة السائل، وأما بعد الموت فقد انقطع التكليف عنهم.
فالخلاصة: أن طلب الدعاء والشفاعة ونحو ذلك من الأنبياء والصالحين بعد موتهم لا يجوز؛ لأنه شرك أو ذريعة إلى الشرك.
وهذا هو الوجه الثاني.