[الجمع بين ما ورد عن سلفنا في حكم من قال القرآن مخلوق]
وبعد قراءة ما ورد عن سلفنا فيما يتعلق بحكم من قال: بأن القرآن مخلوق؛ خرجنا بنتيجة تأليفاً لأقوالهم، وعدم تضاربها: بأن من قال: القرآن مخلوق وهو جاهل لا يعلم ذلك فإنه يعلم ولا يستتاب؛ لأنه جاهل، فبمجرد أن يتعلم فإنه يترك هذا الخطأ الذي كان عليه، وينحاز إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وإنما سمع الناس يقولون: مخلوق، فقال: مخلوق، وهو لا يدري ما معنى هذه الكلمة ولا ما خطورتها، وأما من قال ذلك متأولاً -والتأويل في هذه القضية غير سائغ ولا معتبر- فإنه لابد أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وأما من قال ذلك عناداً وجحوداً وهو يعلم خطورة الأمر فإنه يقتل دون أن يستتاب، ولو أنك تصفحت كلام أهل العلم لخرجت بهذه النتيجة؛ ولذلك سئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه عمن قال: القرآن مخلوق ما هو؟ قال: كفر، وقائله إما مخطئ فيعلم، وإما عالم فيقتل.
وأرجو أن ينسحب الكلام الذي قلناه في هذه الصفة على صفات الله عز وجل كلها، فهذا كلام ذكرناه على صفة الكلام لله عز وجل؛ لأن المناسبة استدعت ذلك، وأن الفتنة قامت فيما يتعلق بهذه الصفة، فوضع كل أصولاً؛ ليمشي عليها بقية جماعته وفرقته؛ فوضع أهل السنة في مقابل أصول أهل البدعة أصولاً؛ لتجري هذه الأصول على بقية الصفات، فإذا كانت صفة الكلام غير مخلوقة لله عز وجل فكذلك بقية صفاته غير مخلوقة، ولا يجوز أبداً أن نقول عن أي صفة: إنها مخلوقة، فإن صفات الله تبارك وتعالى منه وإليه، ولا يجوز أبداً أن تقول: إن الله كان بغير صفات ثم اتصف بهذه الصفات، أو كان بغير أسماء ثم تسمى بهذه الأسماء؛ لأنه يلزمك -والحالة هذه- أن تقول: إن الذات العلية كانت مجردة عن الأسماء والصفات، ثم أحدثها الله تبارك وتعالى لنفسه.
وقولك: (ثم أحدثها) يعني: ثم خلقها، وهذا بلا شك كفر؛ لأن فيه نسبة النقص إلى المولى عز وجل، وأنه كان مجرداً ثم اتصف، وكان مجرداً ثم تسمى، وكأنه كان عاجزاً من أول الأمر أن يتسمى أو يتصف، ثم لما علم سبحانه أن هذا نقص وعيب أراد أن يتمه وأن يكمله؛ فسمى نفسه بأسماء، ووصف نفسه بصفات.
فمن جاء عنه ذلك مالك عليه رحمة الله، ومن الخلفاء: أبو جعفر المنصور، وأما من الفقهاء فكثير جداً لا يكاد العد يحصرهم.
قالوا لـ مالك: ما تقول فيمن قال: القرآن مخلوق؟ قال: اقتلوه؛ كافر، فقال السائل: يا أبا عبد الله! إني لم أقله، إنما قلت لك: قال إنسان، قال مالك: إنما سمعته منك.
يعني أن مالكاً أمر الناس أن يقتلوا الذي سأله، فلم يقل مالك: اقتلوا القائل، وإنما قال: اقتلوا السائل.
فقال السائل: أنا أقول لك: إن شخصاً يقول كذا، وأنا لم أقل ذلك، فقال: أنا ما سمعته منه، وإنما سمعت هذا منك.
وهذا يدل على حساسية الأمر لدى السلف، وأنهم ما كانوا يحبون أن ينتشر هذا الكلام ولو على سبيل السؤال؛ لأنه باب عظيم من أبواب نشر الفاحشة بين الناس.
والفاحشة إن كانت عند إطلاقها تعني: الزنا وتغير الذنوب، إلا أن أعظم من ذلك وأشر هو الكلام في أسماء الله وصفاته بغير علم.
وقال سفيان بن عيينة: قال يحيى بن السراج: كنا عند ابن عيينة فتشوش الناس -يعني: أحدثوا أصواتاً متداخلة ومختلطة- فقال ابن عيينة: ما هذا؟ قالوا: قدم بشر المريسي، قال: وما يقول هذا؟ قالوا: يقول: القرآن مخلوق، قال: آتوني بشاهدين حتى آمر الوالي بضرب عنقه.
أي: شهد عندي اثنان أو ثلاثة أنه يقول هذا أمرت الوالي أن يضرب عنقه.
وعن حفص بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما كنت أعرض أحداً من أهل الأهواء على السيف إلا الجهمية.
قال الربالي: هم والله كفار.
وقال ابن مهدي: لوددت أن أقوم على رأس الجسر فلا يمر أحد إلا سألته، فإن قال: القرآن مخلوق؛ ضربت عنقه، وألقيته في الماء.
فهذا عبد الرحمن بن مهدي إمام عظيم جداً من أئمة السنة، وهو شيخ الإمام الشافعي، قال: من زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى بن عمران تكليماً فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وقال وكيع بن الجراح: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن القرآن محدث -أي: حادث- ومن زعم أن القرآن محدث فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وأرى أنه يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وهكذا جاء عن عبد الله بن داود الخريبي وغيرهم.
وسئل أبو عبيد القاسم بن سلام: ما تقول يا إمام! فيمن قال: القرآن مخلوق؟ قال: هذا رجل يعلم ويقال له: إن هذا كفر، فإن رجع وإلا ضربت عنقه.
وهذا النص يستلزم الاستتابة، كما أن فيه عقيدة عظيمة جداً لأهل السنة وهي: مبدأ ورود العذر بالجهل.
وعن القاسم قال: من قال: إن القرآن مخلوق فهو شر ممن قال: إن الله ثالث ث