[تأويل الإمام النووي وابن الجوزي لصفتي الإتيان والمجيء والرد عليهما]
وقد جاءت صفتا الإتيان والمجيء مقترنتين في حديث واحد رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إذا تلقاني عبدي بشبر؛ تلقيته بذراع، وإذا تلقاني بذراع؛ تلقيته بباع، وإذا تلقاني بباع؛ جئته وأتيته بأسرع).
صفتان ثابتتان لله عز وجل: الإتيان والمجيء، لكن بعض أهل العلم لا يدعون هذه الآيات تمر هكذا، كـ ابن الجوزي عليه رحمة الله، والنووي عليه رحمة الله، وكلاهما لم يتمكن من دراسة العقيدة دراسة وافية مستفيضة على يد أهل السنة والجماعة؛ ولذلك وردت أخبار في ترجمة ابن الجوزي عليه رحمة الله، أنه شيخ الوعاظ وصاحب ورع وتقى وهدى، لكنه في باب الصفات لم يحكم ذلك إحكاماً، وإنما كان له تخبط، فتارة يقول بقول السلف، وتارة يقول بقول الخلف، وتارة يذكر الخلاف ولا يرجح، تماماً كما يفعل النووي، ولذلك عاب عليه الذهبي عليه رحمة الله في كتاب السير باعتبار ابن الجوزي حنبلي المذهب، فقال: ويا ليته سكت أو تبع إمامه.
أي: يا ليته ما تكلم في الصفات، ويا ليته إن تكلم اتبع إمامه أحمد بن حنبل.
فـ ابن الجوزي ممن دخل في هذا التأويل، وكذا النووي عليها رحمة الله، لكن تلاميذ النووي نقلوا عنه أنه لم يحكم دراسة العقيدة، بل كان يقلب فيها، وينقل من كتب القاضي عياض، والإمام المازري وكلاهما أشعري معروف بأشعريته وخلفيته، فذكر الإمام النووي هذه الآيات وهذه الأحاديث، وذكر فيها خلاف أهل العلم، ورجح فيها مذهب الخلف للأسف، فأثبت أن المجيء إنما هو مجيء الأمر لا مجيء الله تبارك وتعالى؛ لأنهم لم يفهموا من صفات الله عز وجل إلا ما يفهمونه من صفاتهم البشرية، وقياسهم مجيء الرب على مجيئهم، وإتيان الرب على إتيانهم، وقرب الرب على قربهم ودنوهم، فهم لم يفهموا ولم يدركوا من صفات الله عز وجل إلا ما يدركون من صفاتهم التي يرونها ويعلمونها من أنفسهم، وهذا بلا شك خطأ عظيم جداً، والرد عليه من أوجه كثيرة: أولاً: أن النووي لما رجح مذهب الخلف ادعى أن هذا مذهب السلف، فإن كان يقصد مذهب الأشاعرة، وأنهم سلف بالنسبة له وأنه تابع لهم في بعض الصفات؛ فكلامه صحيح، وإن كان يقصد أن هذا مذهب السلف الصالح عامة؛ فكلامه مردود، إذ إن التأويل ليس هو مذهب السلف، وإنما هو مذهب الخلف.
ومذهب السلف رضي الله عنهم إنما هو إثبات المعاني، وتفويض علم الكيفية إلى الله تعالى، وقد فصلنا القول في ذلك مراراً ولا داعي لإعادته.
ثانياً: تأويله للإتيان والمجيء بالرؤية، أو ببعض ملائكة الله، ليس تأويلاً صحيحاً، بل هو يناقض العقيدة السلفية في صميمها، فنحن إذ نقول بإثبات صفة المجيء والإتيان للرب تبارك وتعالى لا يستلزم ذلك التشبيه والتجسيم؛ لأننا قلنا من قبل: ما من شيئين إلا وبينهما اشتراك وافتراق، فمن نفى القدر المشترك فقد مثل، ومن نفى القدر الفارق فقد عطل.
والله تعالى يأتي في صورة فيقول: أنا الجبار، وهو سبحانه قد صورني وخلقني على صورة معينة، فهل صورتي كصورة الله عز وجل؟
الجواب
لا.
لكن أوجه الشبه بيني وبين الله أن لي صورة ولله تعالى صورة.
فالخلق يتفقون مع الخالق في مجرد التسمية فقط، ومن نفى القدر المشترك فقد مثل، كأن يقول: صورتي كصورة الله عز وجل؛ لأنه أثبت لنفسه صورة، وأثبت لله صورة، فلا بد وأن تكون صورته كصورة الله، وهذا خطأ عظيم؛ لأننا إذا كنا نفرق بين ذات المخلوق وذات الله، فلا بد وأن المخلوق يقول بنفس الفارق بين صورته وصورة الله عز وجل، وإلا إذا لم يقم هذا الفارق بينه وبين الله فلا بد وأن يجعل نفسه أو ذاته كذات الله تعالى، وهذا إلحاد وكفر.
ومن نفى القدر الفارق فقد عطل.
أي: عطل المولى تبارك وتعالى عن صفاته.
كما أن الله عز وجل يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة، وكل ذلك على الحقيقة من غير أن يلزم فعله سبحانه وتعالى ما يلزم المخلوقين إذا فعل مثل ذلك.
ومن المؤكد أن النبي عليه الصلاة والسلام وسلف هذه الأمة وأئمتها يعلمون أن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة، أو وصفه رسوله بصفة أن ذلك ثابتاً له على ما يليق به سبحانه وتعالى، فلا يشبه شيئاً من صفات خلقه، كما لا تشبه ذاته سبحانه ذواتهم، وكذلك القول بالنسبة لأفعاله سبحانه وتعالى.
ومن الجدير بالذكر هنا: أن في صفات الخلق ما يختلف فيما بينهم، فليس كل الخلق يتصفون بصفة واحدة، ولذلك الحيوانات لها صورة، والطيور لها صورة، وبنو آدم لهم صورة، والله تبارك وتعالى له صورة، فهل اتفاق الجميع في لفظ الصورة يستلزم المماثلة والمشابهة بين هذه المسميات؟
الجواب
لا، فتشابه الصفات في الاسم لا يستلزم تشابه الذوات.