[شرح حديث عمر بن الخطاب في بيان مراتب الدين]
وفي حديث عبد الله بن عمر قال: [حدثني عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه منا أحد)].
والمدينة بين جبلين، وبين لابتين، وهي منقطعة عن البلدان وعن العمران، فالذي يأتيها من غيرها لابد وأن يظهر عليه أثر السفر من الغبار والتراب واتساخ الملبس وتعفير الوجه وشعث الرأس، وغير ذلك، وهذا الرجل الذي دخل عليهم وطلع عليهم لم يكن فيه شيء من ذلك، بل كان رجلاً مرتباً ومنظماً ونظيف الملبس، وليس عليه تراب ولا شيء من هذا.
قال: (لا يعرفه منا أحد)، يعني: ليس من أهل المدينة.
[(ولا يرى عليه أثر السفر)].
وهذا عجب.
قال: [(حتى جلس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فأسند ركبتيه إلى ركبته -يعني: أسند ركبتي نفسه إلى ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام- ووضع كفيه على فخذيه)].
أي: ووضع كفيه على فخذي نفسه، وليس على فخذي النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا لا يتناسب مع أدب طلب العلم، فليس من الأدب أن تجلس إلى المعلم وتضع يديك على كتفه، أو على رجله، أو تأتيه من الخلف، فكل هذا من سوء الأدب مع المعلم والشيخ، وإنما من أراد أن يسأل مسألة فليأت من قبل وجه الشيخ، وليجلس إليه، ثم يسأله في أدب ووقار كما سأل هذا الرجل الذي جلس إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فوضع ركبتيه إلى ركبتيه.
يعني: كان بحذاء النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة.
ولا يعني ذلك أنه لامس بركبتيه ركبة النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما كانت بمحاذاة ركبة النبي عليه الصلاة والسلام ومسندة إلى ركبته عليه الصلاة والسلام.
[(ثم قال له: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ -يعني: عن أركان وشرائع الإسلام- فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)].
وهذه الأركان الخمسة هي أركان الإسلام.
[(قال: صدقت، قال عمر -راوي الحديث- فعجبنا له وهو يسأله ويصدقه)]، يعني: أن هذا الرجل أمره غريب، ومن أول ما دخل وهو يشعر بالغرابة، فهو غريب في منظره وهيئته، وفي مجلسه نوع أدب شديد، وقد أعجب الصحابة منه حتى عمر، ولذلك نقل الهيئة والكيفية، ثم إنه يسأل وهو أيضاً مصدق، وهذا على خلاف عادة السائل، فالسائل يسأل من أجل أن يتعلم، وأما أن يسأل فإذا سمع الجواب قال: هذا حق، وقد صدقت، وهذا لا يكون إلا إذا كان السائل له علم سابق؛ لأنه من العيب أن تقول: أنت صادق أو محق؛ لأن من عادة السائل السؤال حتى يتعلم، ويأخذ الجواب وينصرف، لا أن يقول له: صدقت.
وفي المرة الأخرى يقول له: أخطأت.
وقد يسأل العالم بالجواب حتى تعم الفائدة، ودليل ذلك: هذا الحديث، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يطرح على الناس المسألة لأجل أن يسمع جوابهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم ما هي؟ فوقع الناس في شجر المدينة)، ووقع في قلب عبد الله بن عمر أن المسلم شبيه بالنخلة، والنخلة تعطينا التمر، وبقية الأشجار شجر، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يقل: إن مثل المسلم كمثل النخلة؛ لأن النخلة ليس هناك غيرها، فلو قال: ما هي؟ لعرفوها، ولكنه عم عليهم المسألة فقال: إن مثل المسلم كمثل شجرة ما هي؟ فكلمة شجرة هذه جعلتهم يستبعدوا النخلة، فلما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنها النخلة، قال عبد الله بن عمر لأبيه عمر بن الخطاب: لقد وقع في قلبي أنها النخلة، وما منعني إلا الحياء)، يعني: استحيا من مشايخ قريش وزعماء الأنصار، فحزن عمر حزناً شديداً وقال: لو قلتها لكانت أحب إلي من الدنيا وما فيها.
وهذا من فرحة الأب بذكاء ولده وبتفوقه، وربما ظل عمر ندمان عليه حتى مات.
فـ عبد الله بن عمر عرف ذلك وهو طفل صغير، وقد كان عقله راجحاً من أول الأمر.
[قال: (قال: صدقت، فعجبنا له وهو يسأله ويصدقه.
قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)]، فأركان الإيمان ستة، وأركان الإسلام خمسة.
(قال: صدقت، ثم قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه).
وهذا منتهى المراقبة لله عز وجل.
(فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، أي: فإنه سبحانه يراك حقيقة.
(قال: صدقت.
فأخبرني عن الساعة؟ قال: قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، أي: أني مثلك في هذه القضية، فيوم القيامة لا يعرفه أحد؛ لأن هذا من الغيب الذي أستأثر الله تعالى به لنفسه، وأنا لا أستطيع أن أجيبك عن هذا السؤال.
(قال: فأخبرني عن أماراتها وأش