[ذكر ما روي في تفسير قوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها)]
فالله عز وجل هو الخالق الواجد للخير والشر؛ لأنه لا يقع في ملكه إلا ما أراد وشاء، وأما العبد فهو المكتسب لفعل الشر، وهو كذلك المكتسب لفعل الخير، والله عز وجل يتمنن على عباده أحياناً بالخير والفضل والثواب دون عمل ودون سبب، ويتمنن عليهم بالخير والفضل والثواب بسبب العمل.
وهنا سيذكر الأدلة في إثبات وبيان أن الله تعالى خالق للخير والشر جميعاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [سياق ما روي في تفسير قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [:٨].
قال أبو الأسود الدؤلي: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت به الحجة عليهم؟ قال: قلت: بل شيء مضى عليهم -أي: شيء مكتوب أزلاً- قال: فهل ذلك ظلم؟ -أي: فهل ذلك المكتوب الذي كتبه الله تعالى ظلم وعدوان على العبد؟ - ففزعت منه فزعاً شديداً فقلت له: ليس شيء إلا خلقه وملك يده، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣].
قال: سددك الله! إنما سألتك لأحزر عقلك -أي: لأختبر ذكاءك- إن رجلاً من مزينة أو جهينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قُضي عليهم ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وأقيمت عليهم الحجة في دينهم؟ فقال: بل في شيء مضى عليهم، قال: ففيم العمل؟ -أي: لم نعمل إذاً إذا كان كل شيء مكتوب أزلاً؟ - قال: من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين -أي: للجنة أو النار- يهيئه لها، تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:٧ - ٨])].
أي: فجبلها على الطاعة أو جبلها على المعصية بعلمه السابق الأزلي أن هذا العبد إنما يختار طريق الطاعة، أو يختار طريق المعصية، وإلا فالله عز وجل قادر على أن يجعل العباد جميعاً على قلب أتقى رجل واحد، وقادر كذلك على أن يجعلهم جميعاً على قلب أفجر رجل واحد، ولو شاء الله عز وجل لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لأضلهم جميعاً، لكن هذا على غير مقتضى الحكمة من الخلق، والله تبارك وتعالى موصوف بالحكمة ومتسم بها، فلو خلق الله جميع الناس كلهم مؤمنين؛ فمن ذا الذي يعرف الكفر أو الشرك؟ وما فائدة خلق النار هنا؟ قال: [وعن الحسن في هذه الآية: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:٨ - ١٠]].
في الحقيقة هذه الآية محل نزاع في عود الضمير فيها: هل يعود على الله عز وجل، أو يعود على صاحب النفس في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:٩ - ١٠] أي: قد أفلحت نفس زكاها الله عز وجل، وقد خابت نفس دساها الله عز وجل، هذا معنى، وهو الراجح، وهو مذهب جماهير المفسرين.
والمعنى الثاني: أن ذلك دعاء لصاحب النفس وعلى صاحبها بأنه هو الذي زكاها، وهو الذي دساها زكاها بالطاعة، ودساها بالمعصية، فيكون التقدير، قد أفلح عبد زكى نفسه، وقد خاب عبد دس نفسه بالمعصية.
[وعن الحسن قال: قد أفلحت نفس اتقاها الله عز وجل، وقد خابت نفس أغواها الله عز وجل].
إذاً: فالله تبارك وتعالى هو واهب التقوى، وهو باعث الضلال والشقاء، بمعنى أنه هو الذي أذن في وجوده وخلقه، وترتب في العبد لعلم الله تعالى الأزلي أن هذا العبد سيختار طريق التقوى أو طريق المعصية.
فحينما علم الله عز وجل من عبده سلفاً وأزلاً أنه يختار طريق الطاعة حتى يموت عليها؛ أذن له في دخول الجنة، وجعله من قسمها، وحينما علم أن عبده الآخر لا يقبل الطاعة، وإنما يقيم على المعصية ويميل إليها، ويعملها ولا يتوب منها؛ جعله من قسم النار وهيأه لهذا العمل، وإلا فما فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب؟ والله عز وجل أخذ الميثاق الأول على بني آدم حينما أخرجهم جميعاً من صلب آدم: أن يكونوا موحدين لا مشركين، وأقروا بذلك، فالله عز وجل أرسل بعد ذلك الرسل والأنبياء ليذكروا العباد فقط بذلك الميثاق الغليظ، وهو أعظم ميثاق على الإطلاق، ألا وهو ميثاق الإيمان والتوحيد.
قال: [وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:٩ - ١٠] يقول: قد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دس الله نفسه].
وهذا يدل على أن التزكية والطهارة والنقاء والتقوى من الله، كما أن الدس والضلال والحيرة والتيه من الله عز وجل.
إذاً: فيكون الله تعالى هو الخالق للخير والشر.