المرتبة الثالثة: هي مرتبة الإرادة والمشيئة لله عز وجل، فالله تعالى أذن في وقوع المعاصي وأرادها، ولا تقتضي كلمة (أرادها) أنه أحب ذلك، فهو يحب الطاعات ويكره المعاصي، فإذا أتى العبد فعلاً من أفعال الطاعات فنقول: إن هذا الفعل متعلق بإرادة من الإرادتين؛ لأن الله تعالى يريد إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، وهي أعمال الطاعات.
فمعنى إرادة شرعية: أن لها تعلقاً بالشرع، وبالأمر الذي أحبه ورضيه لعباده، ومعنى دينية: أن لها تعلقاً بالكتاب والسنة مبناها على المحبة والرضا، ولو أن الله تعالى لم يحبها ولم يأذن فيها بل نهى عنها كالمعاصي، فإنه ما من شيء يقع في الكون إلا وهو بعلم الله، وقد كتبه الله على ذلك العبد، فالعبد لما اختار هذه المعصية، وعلم الله عز وجل علماً أزلياً أن هذا العبد سيسلك هذا الطريق -وهو طريق المعصية- كتبه عليه، وقد أفرغ الله تعالى حجتك بأن أرسل إليك الرسل وأنزل عليهم الكتب؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة.
وأنت الآن لو خيرت في سبيل له طريقان: طريق أخبرت أن فيه شوكاً وعقبات، وطريق آخر ممهد سهل ميسر، فإنك ستختار الطريق الميسر، فكذلك الله تبارك وتعالى أرسل الرسل، وأنزل معهم الكتب، وبين لك الحلال والحرام، وأمرك بالحلال وبالطيبات، وحذرك من الحرام ومن المعاصي، ثم بين لك أن عاقبة التقوى وعاقبة الطاعة الجنة، وأن عاقبة المعاصي النار، ومع هذا فهناك من يختار طريق النار، وهو يعلم أن هذه المعصية تؤدي بك إلى النار.
فلما علم الله عز وجل منك ذلك سلفاً، وقد بين لك هذا وهذا، وأنت تأتي هذه المعصية عالماً بأنها معصية، وعالماً بمآلها؛ كتبها عليك؛ لأنك اخترتها، وتركت الخير الذي يضادها، فكتبها الله عز وجل عليك، فالطاعات أرادها الله تعالى لك، ورضيها وأحبها وأمر بها، وجعل عاقبة من أتاها الجنة، وأما المعاصي فإن الله تعالى كرهها وسخطها وبغضها إلينا، وبين عاقبتها ومآلها، وحذرنا منها؛ ولأجلها أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وخلق لها في الآخرة ناراً لمن أدمن هذه المعاصي؛ وخاصة الكفر والشرك.
والعبد يختار هذا مع علمه بمآله وعاقبته.
وهذه المعاصي ما كانت لتقع من العبد رغماً عن الله، فلو أراد العبد الآن أن يقوم من مقامه فإنه لا يقوم إلا بإذن الله، ومن الناس من يقوم لصدق في نيته، ومن الناس من يقوم لمعصية في نيته، فرجل يخرج من بيته ليطلب العلم؛ فيعينه الله تبارك وتعالى، وييسر له طريق الصواب، ويعطيه القوة على أن يصل إلى بغيته، ورجل بجواره على نفس الكرسي قام ليزني، أو ليسرق، أو ليقتل؛ فهل كان بإمكانه أن يقوم من مقامه رغماً عن الله أو بغير إذن الله؟ هل يتصور أن يقع في الكون غير ما أراد الله؟ فإرادته الشر إرادة كونية قدرية وليست إرادة شرعية دينية، بمعنى: أن الله تعالى قدر الأفعال التي تقع في الكون، وأرادها وأذن في وقوعها، ومبناها أحياناً يكون على المحبة والرضا كالإرادة الشرعية الدينية، وأحياناً يكون مبناها على السخط والبغض كالمعاصي وأعظمها الكفر.