للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأدلة من السنة على أن الله مستو على عرشه فوق خلقه]

ذكر الإمام اللالكائي في هذا الباب -كما ذكر في غيره على عادة المصنفين المسندين- آثاراً وأحاديث بعضها صحيح والبعض الآخر ضعيف، ولا شك أن الحجة في الصحيح، خاصة إذا كان الاحتجاج في باب الاعتقاد، أما الضعيف فلا حجة فيه، ولا حتى في فضائل الأعمال على المذهب الراجح، ولذلك ذكر هنا أحاديث ضعيفة كما ذكر آثاراً أعرضنا عن ذكرها صفحاً؛ لأنها ليس فيها حجة.

ومما صح من روايته عن معاوية بن الحكم السلمي، وهذا الحديث عند الإمام مسلم وهو المعروف بحديث الجارية.

قال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: (يا رسول الله! كانت لي جارية ترعى غنيمات لي من قبل أحد والجوانية -أي: كانت لي بنت صغيرة ترعى الغنم بين جبل أحد والجوانية- وإني أطلعتها يوماً إطلاعة، فوجدت ذئباً قد ذهب منها بشاة)، يعني: اختبرتها وراقبتها ذات يوم؛ فوجدت ذئباً أخذ شاة من تلك الغنيمات.

قال: (وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون)، يعني: أحزن لفقدان مالي وأغضب، (فصككتها صكة)، يعني: لما غفلت عن تلك الغنيمات؛ صفعتها وصككتها على وجهها صكة.

قال: (فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم)، استعظم ذلك جداً وأنكره.

قال معاوية: (فقلت: يا رسول الله! ألا أعتقها؟ -أي: فيكون ذلك كفارة لي؟ - فقال: ادعها إلي، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: أين الله؟ قالت: الله في السماء)، وهذه جارية صغيرة، وإن شئت فقل: بدوية لا تعرف من دينها ولا من دنياها شيئاً غير أنها ترعى الأغنام في الجبل، ومع هذا لم تقع فيما وقع فيه فرق كثيرة من فرق المسلمين، وضلت فيه جماعات من أمة محمد عليه الصلاة والسلام: كالجهمية والمعتزلة والأشعرية والماتريدية وغيرهم.

فقالت هذه الجارية: (الله في السماء.

قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاوية بن الحكم السلمي: اعتقها فإنها مؤمنة)، فرتب النبي عليه الصلاة والسلام إيمان هذه الجارية على معرفتها بذات الله تبارك وتعالى، وأنه مستو على عرشه في السماء، وأنها أقرت برسالة ونبوة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا بلا شك أعظم علامات الإيمان: اعتقادك بالله عز وجل واعتقادك بأن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله.

انظروا إلى هذه الجارية الصغيرة في السن، البدوية التي لا حظ لها في العلم، علمت بفطرتها أن الله تعالى في السماء، مستو على عرشه.

وعن أبي هريرة: (أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام بجارية سوداء أعجمية)، والأعجمي ليس بلازم ألا يكون عربياً، فالأعجمي: هو كل من لم يجد اللسان العربي، ولكنه يتكلم بلسان آخر، وكذلك العربي الذي لا يستطيع أن يفصح عما في نفسه بلسان عربي فصيح مبين يسمى أعجمياً وإن كان عربياً.

أتى رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام بجارية سوداء أعجمية فقال: (يا رسول الله! إن علي عتق رقبة مؤمنة)، يعني: قد فعلت فعلاً يستوجب أن أعتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء، فقال لها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء)، أي: أنت رسول الله الذي في السماء، وهذه جارية أعجمية؛ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اعتقها)، يعني: هي تصلح أن تكون كفارة لذنبك؛ لأنها مؤمنة، وإن الذنب الذي ارتكبته ورتب الله تبارك وتعالى عليه عتق رقبة مؤمنة هذه الجارية بهذه الإجابة مؤمنة وهي تجزئ في كفارتك؛ فأعتقها.

قال: [وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن وضوءه، ثم رفع نظره إلى السماء -وهذا محل الشاهد وفي رواية: بصره إلى السماء- فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)].

الشاهد: أن المرء إذا توضأ ثم رفع بصره إلى السماء، لماذا يرفع بصره إلى السماء؟ لماذا لا يضع وجهه في الأرض وينادي المولى تبارك وتعالى؟

الجواب

لداعي الفطرة في قلبه وفي روحه ونفسه أن الله تعالى في السماء، وما وجدنا واحداً قط من المسلمين، بل ولا حتى من غير المسلمين يدعو الله تبارك وتعالى إلا وهو يتوجه بيديه وبوجهه ورأسه ورقبته، بل وبكليته إلى جهة السماء؛ لأن داعي الفطرة من داخله يناديه أن الله تعالى في السماء، وأنك إن توجهت إليه بالدعاء قبل الله دعاءك.

وهذا الحديث محل خلاف بين أهل العلم من المحدثين، فبعضهم يحسنه، والبعض الآخر يضعفه، كالذي بعده؛ لأنه من رواية أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، وهو أبوه، وقيل: إن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه إلا بعض أحاديث -أربعة أو خمسة- قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود