[كلام ابن عباس في إثبات نقصان الإيمان بإتيان المعاصي]
قال: [وعن ابن عباس أنه قال لغلمانه -أي: لمواليه-: من أراد منكم الباءة زوجناه -يعني: من أراد منكم أن يتزوج زوجناه- لا يزني منكم زان إلا نزع الإيمان منه].
هو يقول لهم: ممنوع لأي شخص منكم أن يفكر أن يزني؛ لأن الواحد منكم إذا كان في حاجة إلى الزواج فليخبرني وأنا أزوجه، مخافة أن يقع في الزنا الذي يسلب معه الإيمان.
قال: [فإن شاء أن يرده الله عليه رده وإن شاء أن يمنعه منعه]، لأن الأمر مثلما يقول ابن تيمية وابن الجوزي وغيرهما أن الطاعة دائماً تسلم إلى أختها، وأن المعصية في الغالب تسلم إلى أختها، وقل أن يوفق صاحب كبيرة إلى التوبة، لأن المعصية لها حلاوة، والقلب يتعلق بها أيما تعلق، فيصعب جداً على صاحب القلب الضعيف والإيمان القليل أن يرجع إلى إيمانه الذي تركه أو الذي سلب عنه آنفاً.
فتصور لو أنك مثلاً شاهدت حلقة من مسلسل في التلفزيون، وإن كان المسلسل خنا وضياع وشذوذ لكنك وقفت على لقطة سلبت قلبك فأنت متعلق بالحلقة التالية منتظر لها لأنه قد نزع من قلبك الإيمان الذي يحملك على بغض النظر إلى هذا، وركب في قلبك شهوة لها اتصال قوي بالمعاصي، فهي تريد أن تعرف إلى أي حد تصل هذه المعصية، فأنت مع كل حلقة تسلمك إلى الثانية.
أما إذا كنت من أهل الإيمان وأهل الطاعة وأصحاب الصلاة وأصحاب العلم فإنك إذا سمعت درساً في شعبة من شعب الإيمان فأنت متعلق بهذا الدرس حتى تعلم الشعبة الثانية والثالثة والرابعة والعاشرة والخمسين والسبعين والبضع والسبعين، حتى تكتمل لديك شعب الإيمان.
فالطاعة دائماً تسلم إلى طاعة، والمعصية تسلم إلى معصية، وقل أن تسلم معصية إلى طاعة، لأن التوبة شديدة جداً على نفس العاصي، فاحذر من هذا؛ ولذلك فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه تهديد حيث قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) وفي نهاية الأمر (والتوبة معروضة بعد) يعني: بعدما وقعت في هذا كله التوبة أمامك، فهل تستطيع أن تتوب أو لا؟ فقل أن يتمكن إنسان بعد انغماسه في المعاصي من الرجوع إلى الله عز وجل؛ لأن الشيطان لا يتركك، الشيطان يقول لك: انظر إلى هذا الفيلم فقط، أو إلى هذه الحلقة فقط، أو إلى هذه البنت الجميلة فقط.
أو يزين لك فيقول: يا رجل أنت بعيد عن الزنا، نحن نسمع من الشيوخ أنه حرام، وربنا أكده والرسول عليه الصلاة والسلام فقط أنظر إليها، استمتع فقط بالنظر.
والاستمتاع بالنظر يأتي بعده البسمة، ثم الضحك، ثم الغمز، ثم اللمز، ثم الوعد، ثم المقابلة وغير ذلك من أعمال المعاصي التي هي بريد الزنا.
فلا بد في نهاية الأمر أن تقع في الفاحشة البينة، فإذا كان ذلك منك فهل يا ترى تستطيع أن تقلع عن الذنب حينئذ؟ ربما يكون ذلك وربما لا يكون، فإذا كان الأمر غير راجح عندك أنك تترك المعصية فلا بد أن تستأصل شأفة الأسباب المؤدية إلى اقتراف الذنب من أول وهلة.
قال: [وقال ابن عباس: الحياء والإيمان في قرن واحد، فإذا انتزع أحدهما من العبد اتبعه الآخر]؛ لأنه ما امتلك زمامه.
فأنتم تعلمون أن الحياء من الإيمان، وهو شعبة من شعبه كما أخبر عليه الصلاة والسلام، إذا نزع الإيمان نزع الحياء، وإذا نزع الحياء نزع قدره من الإيمان.
إذا كانت هذه كلها شعب الإيمان فبلا شك أن ترك شعبة من الإيمان يترك من الإيمان على قدر تركها، فمن ترك مثلاً الصدقة لا بد أن يخدش إيمانه على قدر تفريطه في الصدقة، والذي يترك الحياء فلا بد أن يخدش إيمانه على قدر تركه للحياء، وهكذا كل شعبة من شعب الإيمان.