[قراءة هرقل لكتاب النبي وما يستفاد منه]
[دعا هرقل بكتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي حمله إليه دحية الكلبي فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم.
إلى هرقل عظيم الروم)]، وليس هذا تفخيماً لـ هرقل وهو كافر؛ حتى لا يعترض عليه بأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقولوا للمنافق يا سيد)، فإن النبي عليه الصلاة والسلام إنما خاطبه بما اتصف به على الحقيقة؛ لأنه كان فعلاً عظيم الروم وسيدهم في ذلك الوقت، وأخبره أنه رسول الله، قال: [(من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى)]، لم يقل: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ لأنه لا سلام من الله له، ولا بركة من الله على هرقل؛ لأنه كافر.
ومن أراد أن يسلم على الكفار يقول: سلام على من اتبع الهدى، ومعناها: لو اتبعت الهدى يا هرقل فسلام عليك من الله ومنا.
[أما بعد]، وفي هذا سنية أن يقول الرجل بعد المقدمة: (أما بعد)، وهي كلمة للفصل بين المقدمة وبين ما بعدها، وهي تقال في الخطب، والرسائل، والرسالة المكتوبة ما هي إلا خطبة موجهة إلى القارئ، بخلاف الخطبة والكلمة المسموعة فهي رسالة موجهة إلى مستمع، ويستحب أن يكون بين المقدمة وبين غرض الرسالة كلمة أما بعد؛ ليعلم أن ما بعد هذه الكلمة هو أصل الرسالة، وكل رسالة وخطبة إنما تتكون من مقدمة، وغرض، ونهاية.
ثم قال: [(فإني أدعوك بدعاية الإسلام -يعني: أدعوك للإسلام- أسلم تسلم)] تسلم من القتال، تسلم من الآفات، تسلم من العاهات، تسلم من المصائب، تسلم من لقاء عدوك؛ لأن أهل الإيمان هم أعداء هرقل في ذلك الوقت، ويمكن أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (تسلم) أي: من عذاب الله في الآخرة إذا أسلمت في الدنيا.
قال: [(يؤتك الله أجرك مرتين)] لماذا مرتين وليس مرة واحدة؟ لأن العظيم في الغالب إذا أسلم أسلم من بعده، فيأخذ أجر إسلامه هو، ثم يأخذ أجر إسلام من تبعه على الإسلام، [(فإن توليت -أي: فإن أعرضت وكذبت ولم تسلم- فإن عليك إثم الأريسيين)]، والأريس: هو الفلاح، وهذا يدل على أن ولاية الشام إنما كان عملها الفلاحة والزراعة، يعني: بامتناعك عن الإسلام فيمتنع من بعدك في مملكتك وولايتك، فكما أنك إذا أسلمت تأخذ أجرين، أجر إسلامك وإسلام من تبعك، فإذا جحدت وكذبت ولم تسلم فإن عليك إثمك وإثم من تبعك، وهم الأريسيون، وهم أصحاب مملكة الشام.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: [({يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:٦٤] إلى قوله: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٦٤])]، هذه الآية وجهت إلى هرقل، والكافر نجس العقيدة، ويستشهد بها ابن حزم وغيره كالشيخ الألباني عليه رحمة الله وكثير من أتباع مدرسته إن لم تكن كل المدرسة، وكذلك بعض علماء الحجاز يستشهدون بأن مس القرآن للجنب والحائض جائز من باب أولى، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام أرسل بهذا الكتاب وفيه آية من كتاب الله عز وجل إلى رجل كافر، وهو يعلم أنه لا محالة سوف يأخذه بيده، فمن باب أولى أن يأخذه المسلم الذي لا ينجس؛ فإن الجنابة ليست بنجاسة، وقد ورد في الحديث: (أن أبا هريرة رضي الله عنه أجنب، فتنحى من طريق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم دعاه النبي عليه السلام فلم يأته، فقال: ما منعك؟ قال: يا رسول الله إني نجس، قال: إن المؤمن لا ينجس) فإذا كان الأمر كذلك، وأن الجنب والحائض ليسوا بنجس؛ فمن باب أولى أن يقرأ كتاب الله عز وجل.
[فلما فرغ هرقل من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر هرقل بـ أبي سفيان ومن معه فأخرجوهم، فقال: أبو سفيان لأصحابه حينها: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة -أي: لقد ظهر أمر ابن أبي كبشة، وأبو كبشة هو من أجداد النبي عليه الصلاة والسلام-[إنه ليخافه ملك بني الأصفر]، أي: الروم، قال لهم: إذا كان هرقل نفسه يخشاه فكيف بنا؟ ويقول: إن ملك محمد سيبلغ ما تحت قدمي هنا.
قال: [فما زلت موقناً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام] والحديث أخرجه البخاري ومسلم.