[كلام أبي الأسود الدؤلي في القدر وبراءته من القول بنفي القدر]
قال: [عن عثمان بن عبد الله قال: أول من تكلم في شأن القدر أبو الأسود الدؤلي].
أبو الأسود إمام كبير جداً من أئمة البصرة، وهو تلميذ علي بن أبي طالب؛ ولذلك فهذا الكلام له محملان: إما أن يكون شاذاً؛ لأن أبا الأسود الثابت عنه بالسند الصحيح أنه يثبت عقيدة القضاء والقدر، وإما أن يكون أول من تكلم في القدر أبا الأسود الدؤلي من جهة إثباته، ويكون هذا الكلام فيه تجوز؛ لأن أول من تكلم في إثبات القدر هو النبي عليه الصلاة والسلام، وأصحابه، والتابعون، وأتباعهم إلى يومنا هذا.
فإذا كان المقصود: أول من تكلم في إثبات القدر هو أبو الأسود فمحمله: أنه أول من تكلم في إثبات القدر بالبصرة في وجود معبد الجهني، ويكون حميد قد ذهب إلى مكة وقابل عبد الله بن عمر، فيكون أول من رد على معبد الجهني هو أبو الأسود الدؤلي.
والدليل على أن أبا الأسود الدؤلي من الذين ثبت عنهم أنهم أثبتوا عقيدة القضاء والقدر: ما روي عن يحيى بن يعمر قال: كان رجل من جهينة وفيه رهق -يعني: كان شاباً مراهقاً -وكان يتوثب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن، وفرض الفرائض، وقص على الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زعم أن العمل آنف: من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً.
قال: فلقيت أبا الأسود الدؤلي فذكرت ذلك له، فقال: كذب، ما رأينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يثبت القدر.
إذاً: فعقيدة أبي الأسود إثبات القدر.
قال: يحيى بن يعمر: ثم إني حججت وحميد بن عبد الرحمن الحميري، فلما قضينا حجنا وكنا قلنا: نأتي المدينة فنلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسألهم عن القدر، فلما أتينا المدينة لقينا أناساً من الأنصار فلم نسألهم، قلنا: حتى نلقى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري.
قال: فلقينا ابن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، قال: فقمت عن يمينه وقام هو عن شماله، قال: قلت: تسأله أو أسأله؟ قال: لا، بل اسأله، قال: قلت: يا أبا عبد الرحمن! إن ناساً عندنا بالعراق قد قرءوا القرآن، وفرضوا الفرائض، وقصوا على الناس، يزعمون أن العمل أنف: من شاء عمل خيراً، ومن شاء عمل شراً، قال: فإذا لقيتم ذلك فقولوا: يقول ابن عمر: هو منكم بريء، وأنتم منه براء، فوالله لو جاء أحدهم من العمل بمثل أحد ما تقبل منه حتى يؤمن بالقدر! لقد حدثني عمر: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن موسى لقي آدم فقال: يا آدم! أنت خلقك الله بيده، وأسجد لك الملائكة، وأسكنك الجنة، فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار.
قال آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؛ تلومني بما قد كان كتب علي قبل أن أخلق؟! فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى، فاحتجا إلى الله فحج آدم موسى).
يعني: آدم غلب موسى بحجته، وهذا الحديث ظاهره جواز الاحتجاج بالقدر على المعصية، فآدم قد عصى الله فأكل من الشجرة، واحتج بالقدر، وما كان احتجاج آدم إلا بعد أن تاب؛ ولذلك مذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية إلا لمن تاب؛ ولذلك حدت الحدود، وأقيمت العقوبات؛ لتطهير من أذنب، وهذه العقوبات كذلك هي من قدر الله.
جيء إلى عمر برجل قد زنى، وأراد أن يحتج على زناه كما احتج آدم، فقال: يا أمير المؤمنين! أتحدني في أمر قد قدره الله علي؟ قال: نعم، إنما نحدك بقدر الله أيضاً.
فالمعاصي وقعت بقدر الله الكوني القدري، والعقوبات جعلت بقدر الله تطهيراً لهذه المعاصي، فالمرء يفوض أمره إلى الله عز وجل ويتوب، وتقام عليه الحدود، ويعتقد في قلبه أن ما وقع منه كان باختياره، ولو أراد الله تعالى ألا يقع فيها العبد لفعل، ولكن لما اختار العبد طريق المعصية مهد الله تعالى له الطريق إليها؛ ولذلك اختلف المعتزلة والجهمية في مسألة القدر، فبعضهم يثبت أن العبد مسير ومجبور، وبعضهم يقول: هذه الإرادة كلها والاختيار كله للعبد ولا دخل لله عز وجل، فيها.
وأهل السنة والجماعة يقفون موقفاً وسطاً بين هذين الفريقين، فيقولون: (كل ميسر لما خلق له)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: لقد حدثني عمر: أن رجلاً في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إليه فقال: (يا رسول الله! أدنو منك؟ قال: نعم، قال: فجاء حتى وضع يده على ركبته، فقال: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟)، وأشراط الساعة وغيره ذلك، وهو حديث جبريل الطويل، وقد سقت هذا الحديث لإثبات أن أبا الأسود الدؤلي لم يكن قدرياً، بل كان من أهل السنة والجماعة.