[قيام الناس لرب العالمين في القيامة الكبرى]
الأمر الثاني مما يكون يوم القيامة: يوم يقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً.
حفاة أي: لا يلبسون في أقدامهم شيئاً.
عراة: لا يلبسون على أجسادهم شيئاً.
غرلاً: وهي القلفة التي أخذت من المرأة والرجل في أثناء الختان.
هذه القطعة التي أخذت من ذكرك وأنت صغير ترد إليك وتبعث بها، ويعيدك الله تعالى كما بدأك، فإذا كنت تؤمن بالله عز وجل فلابد أن تعلم أن هذه القلفة منذ ستين أو أربعين أو خمسين أو عشرين سنة أو أكثر من ذلك أو أقل قد دفنت أو ألقيت على المزابل، فذابت وانتهى أمرها منذ عشرات السنين، وبعد ذلك تموت ثم تبعث وتبعث معك هذه القطعة من اللحم، أفلا يدل هذا على أن الله تعالى قادر على الإحياء بعد الإماتة؟ بلى.
فإذا كان الله تعالى قادراً على إنشائك من العدم فإعادتك أهون عليه! أما قوله: (فيقوم الناس من قبورهم) إن مات إنسان ولكنه لم يدفن في القبر، كأن مات في البحر وأكلته الأسماك والحيتان، أو مات وأكلته الوحوش في البرية، أو سقط عليهم سقف البيت فماتوا تحت السقف ولم يقبروا، أليس الله تعالى قادراً على أن يعيد هذه الأبدان ويحييها ويحاسبها، فيقذف الكافر في النار، ويدخل المؤمن الجنة؟ بلى، سبحان الله! {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦]، لأن الله عز وجل يناديهم، كما قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:٤١ - ٤٢]، والصيحة هذه صيحة البعث، فيقومون لهذا النداء العظيم من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٤ - ٦].
قال: أما قوله: (حفاة عراة غرلاً) فقد ذكرناها، كما قال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:١٠٤]، فيعاد كاملاً لا ينقص منه شيء.
يعودون على هذا الوصف مختلطين رجالاً ونساءً، (حفاة عراة غرلاً).
ولذلك استغربت عائشة رضي الله عنها هذا فقالت: (يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عائشة! يا ابنة الصديق! الأمر أشد من ذلك) وفي رواية: (الأمر أشد من أن يهمهم ذلك) يعني: من أن ينظر بعضهم إلى بعض، فكل إنسان له شأن يغنيه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٤ - ٣٧]، لا رجل ينظر إلى امرأة، ولا امرأة تنظر إلى رجل، حتى إن ابنه أو أباه يفر منه خوفاً من أن يطالبه بحقوق له، وإذا كان هذا هو الواقع فإنه لا يمكن أن تنظر المرأة إلى الرجل ولا الرجل إلى المرأة، فالأمر أشد وأعظم من ذلك بكثير.
ومع هذا فإن الناس يكسون بعد ذلك، وأول من يكسى بعد عري هو إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
أما دليل القيامة الصغرى فهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لما سألوه عن الساعة فنظر إلى أصغر طفل معهم وقال: إن يعش هذا حتى يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم)، أي: قامت عليكم قيامتكم الصغرى، والحديث أخرجه الإمام مسلم.
قال شاعرهم: خرجت من الدنيا وقامت قيامتي غداة أقل الحاملون جنازتي وعجل أهلي حفر قبري وصيروا خروجي وتعجيلي إليه كرامتي كأنهم لم يعرفوا قط صورتي غداة أتى يومي علي وليلتي وأما القيامة الكبرى فتعاد فيها الأرواح إلى الأجساد التي كانت تعمرها في الدنيا، وهذه القيامة التي أخبر الله تعالى بها في كتابه، وأخبر بها رسوله في سنته، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:٥١] إلى قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:٥٢] وقال تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:٧]، وقال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨].