[شرح قول أم سلمة في استواء الله عز وجل]
وعن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥].
قالت: الكيف غير معقول.
أي: إذا كنا متفقين على أن (استوى) بمعنى: (علا وارتفع)، فما هي الكيفية التي استوى الله عز وجل بها على عرشه؟ هذا أمر لا يدخل في دائرة العقل قط، فهو أمر غيبي، ونحن نؤمن بوجود الله عز وجل، ولا يشك أحد في أن الله تعالى ذات موجودة، لكن لو قلنا لواحد: صف لنا الله عز وجل؛ فإنه لا يستطيع، والذي لا يستطيع أن يصف المولى تبارك وتعالى لا بد أنه سيعجز عن وصف صفاته، وعلى ذلك فإنه سيعجز كذلك عن معرفة كيفية يد الله عز وجل، وساق الله عز وجل، وعين الله عز وجل، ووجه الله عز وجل؛ وذلك لأن اليد من الصفات، والوجه من الصفات، والساق من الصفات، وكذلك الأمر في بقية الصفات.
والصفات في حق المخلوقين هي المكونة للذات، فإذا قلت لك: صف لنا محمداً أو إبراهيم أو سعداً، فإنك تستطيع أن تصفه تماماً؛ لأنك لا تستطيع أن تصف شيئاً إلا إذا كان مماثلاً لأمر أنت رأيته، فلو أني قلت لك: صف لنا إبراهيم! لقلت: إبراهيم طويل أو قصير، أو عريض أو نحيف أو سمين، ذو عينين زرقاوتين، أو أصابعه طويلة، أو أبيض أو أسود، حليم غضوب، وغير ذلك من الصفات، فأنت تصف إبراهيم بهذه الدقة؛ لأنك رأيت إبراهيم، أو رأيت من هو مثل إبراهيم، وهكذا فتستطيع أن تصف إبراهيم من خلال مثيله.
ولكن الله تبارك وتعالى ليس له مثيل، وأنت لم تر الله عز وجل، إذاً: الله تبارك وتعالى غيب عن الخلق أجمعين؛ فلا نستطيع أبداً أن نصف المولى تبارك وتعالى، نعجز عن ذلك؛ لأنه غيب، وهو لا مثيل له ولا عدل له ولا كفء له؛ ولأنه منزه عن الشريك والمثيل والضد وغير ذلك من أنواع المماثلات والمتشابهات في عالم المخلوقات، فإذا كان الله تبارك وتعالى غيباً عنا على هذا النحو الذي ذكرناه، فإما أن ننكره وإما أن نثبته، فإن أنكرناه لا بد أن ننكر ذاته؛ لأن هذه الذات هي متصفة بتلك الصفات، فإن أنكرناه كفرنا، وإن أثبتنا وجود الذات؛ لا بد أن نثبت وجود الصفات، لكن وجود الصفات يكون على نحو يليق بالذات، ونحن لا نعلم كيفية الذات.
فإذا كنت أنا أعجز عن وصف ذات الإله، فلا بد أنني سأعجز عن وصف يده وساقه ووجهه وبقية الصفات اللازمة له عز وجل، التي أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته؛ ولذلك عندما يأتي شخص ويقول لي: كيف الله؟ أقول: هذا أمر أنا لا أعقله، ولا أقدر أن أصفه، فإن قال لي: صف لي يد الله تبارك وتعالى فقط، أقول له: لا أقدر على ذلك، والذي لا يستطيع أن يتكلم في الذات لا يستطيع أن يتكلم في الصفات؛ لأن الذات والصفات أمر واحد، وصفات المولى تبارك وتعالى -كما قلنا- لازمة لذاته.
فالذي يستطيع أن يتكلم في الذات يستطيع أن يتكلم في الصفات، والصواب: أننا لا نستطيع أن نتكلم في الذات، وبالتالي يحرم علينا أن نتكلم في الصفات، ولكن علينا أن نؤمن بها كما جاءت، أليس عندنا إيمان بوجود الله من غير ما نراه ومن غير ما نمثله؟ فلماذا لا نؤمن بصفات الله من غير ما نراها ومن غير ما نمثلها ونشبهها بصفات المخلوقين؟ وهذا أمر لازم لإيمانك بالذات من غير أن تراها، فكذلك لا بد أن تؤمن بالصفات على الوجه اللائق الكامل لله عز وجل وأنت لم ترها ولا تعرف كيفيتها؛ ولذلك لما سئلت أم سلمة عن معنى الاستواء الذي هو أحد صفات المولى تبارك وتعالى قالت: الكيف غير معقول، أي: لا يدخل في دائرة عقلي قط؛ لأن عقلي قاصر وعاجز أن يكيف الاستواء لله عز وجل.
فاستواء المولى تبارك وتعالى شيء آخر يختلف عن استواء المخلوقين؛ لأن الذات تختلف عن ذوات المخلوقين، وكذلك الصفات لا بد أن تختلف عن صفات المخلوقين، فالكلام في كيفية الاستواء كالكلام في كيفية كل صفة من صفات المولى تبارك وتعالى، يمتنع ويستحيل ولا يجوز لأحد أن يمثل ولا أن يشبه، ولا أن يحرف الكلم عن مواضعه؛ فيصرف هذه الصفات عن مدلولها الذي وضعه المولى تبارك وتعالى له؛ فلا يجوز لأحد أن يقول: اليد هي القدرة، والعين هي الرعاية، والمجيء هو الأمر، وغير ذلك من صفات المولى تبارك وتعالى، بل نثبتها كما أثبتها السلف، ونمرها كما جاءت، ولا نتكلم فيها قط، ونؤمن بها على هذا النحو.
فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه هذه الآيات لم يخف عليه معناها، ولم يناقش أحد من الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام في كيفية الاستواء؛ وذلك لأنهم يعلمون أن الاستواء بمعنى العلو والارتفاع، فهذا كان أمراً مستقراً لديهم، ولذلك لم يسألوا عنه، بل لم يثبت أن واحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام سأل عن صفة واحدة لله عز وجل؛ لأنهم سكتوا عن هذه الصفات، وآمنوا بها على هذا النحو الذي وردت به ظاهراً، وعلموا المعنى؛ لأنه لا يعقل أن الله تبارك وتعالى يخاطب المخاطبين بكلام هم لا يعلمون معناه؛ ولذلك قالوا: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، يعني: معلوم لنا أن الله تعالى استوى؛ لأنه أخبر في