للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم القول: (بأن علم الله مخلوق)]

قال: [أخبرنا عبد الله بن أحمد بن علي المقرئ، قال: سمعت أبا بكر عبد الله بن محمد بن زيد النيسابوري يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: قال حفص الفرد: علم الله مخلوق.

قال الشافعي: كفرت بالله العظيم].

هذا القول إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان؛ لأن كل مخلوق حادث جديد، وعلم الله تبارك وتعالى أزلي أولي، فهل يتصور أن الله تعالى لم يكن عالماً فصار عالماً حتى نقول إن علم الله مخلوق؟! فضلاً عن أن كل مخلوق يفنى، وما من شيء إلا وهو حادث يطرأ عليه البلى والفناء، فهل الله تبارك وتعالى لم يكن عالماً فصار عالماً، ولزاماً أن نقول: إن علمه حادث ومخلوق، وكل مخلوق فان، فهل كان الله تعالى جاهلاً ثم صار عالماً، ثم يئول بعد ذلك إلى الجهل؛ لأنه إذا كان علمه حادثاً فلابد وأن يفنى، فهذا كلام هو للكفر أقرب منه إلى الإيمان.

ولذلك كفَّر أهل العلم من قال بهذا القول: [قال الشافعي: كفرت بالله العظيم].

أي: كونك تقول: إن علم الله حادث.

وهؤلاء المبتدعة يتكلمون من طرف خفي ومع خاصتهم في صفة واحدة لا في كل الصفات، ثم يصير من سمع هذا الكلام فرحاً ببيان بدعة ذلك المبتدع في علم الله، وليس في علم الله فحسب، وإنما في جميع الصفات، لأن أهل السنة يعتقدون أن الكلام في صفة واحدة كالكلام في جميع الصفات إما إثباتاً أو نفياً، فمن قال: إن علم الله حادث أو مخلوق، يلزمه أن يقول: إن سمع الله تعالى كذلك، وحلم الله تعالى كذلك، وقدرة الله تعالى كذلك، وأنه لم يكن قادراً فصار قادراً، ولم يكن سميعاً فصار سميعاً، ولم يكن مبصراً فصار بصيراً بعد ذلك، وكذا في بقية الصفات.

ولماذا تقول بالذات: (علم الله تعالى حادث)، مع أن العلم صفة، والسمع صفة والرحمة صفة، والقوة صفة، والإرادة صفة والمشيئة صفة، فلم تقول هذا في صفة وتترك في بقية الصفات؟ لابد أنه سيعجز عن جواب هذا السؤال.

ولذلك لما أتى يحيى بن يعمر البصري إلى مكة ومعه حميد بن عبد الرحمن البصري قال له: لعل الله تعالى يقيض لنا أحداً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال: فأتينا الكعبة فوجدنا أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر يطوف بها.

قال: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي أسأله أنا فقلت: أبا عبد الرحمن! قد ظهر قبلنا أناس يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف.

والشاهد في قوله: (وأن الأمر أنف).

يعني: مستحدث.

أي: أن الله لا يعلمه أزلاً، وما علمه إلا بعد أن وقع بالفعل.

يعني: أن الله تبارك وتعالى - على مذهب الجعد وتلميذه الجهم بن صفوان - لا يعلم قبل صلاة العشاء أنه هناك درس، وما علم أن هناك درس في مسجد الهدى إلا بعد يوم السبت حقيقة.

فهل يتصور في جنب الله عز وجل أنه لم يكن عالماً به إلا بعد أن وقع فعلمه؟ وهذا يعني أن صفات المولى عز وجل خلقت له سبحانه وتعالى، وهذا كلام هو إلى الكفر أقرب، ولذلك كفر عبد الله بن عمر هؤلاء وتبرأ منهم.

وفي رواية أنه قال: أو قد قالوها؟ كأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتوقعون أن يظهر هذا، ولذلك ورد في صفاتهم أنهم يتنطعون ويتعمقون، وهذا شأن كل متنطع في دين الله عز وجل أن يبوء بالفشل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري أنه قال: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا).

فما من إنسان تشدد في دين الله عز وجل في كل مسائله وقضاياه أكثر مما ورد فيه النص إلا انقطع، إما غالى مغالاة شديدة جداً فكان حرباً على الإسلام والمسلمين، وإما سقط وترك كل شيء، وخير الأمور أوسطها، وهذه الوسطية وهذا العدل هو الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام يحيا به وعليه، وكذلك أصحابه الكرام وأهل العلم الذين يقتدى بهم في دين الله عز وجل.

قال عليه الصلاة والسلام: (إن دين الله يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).

يعني: لن يغالب الدين أحد إلا غلبه الدين.

لو أن رجلاً قام الليل كله يصلي لغلبه النوم فنام قبل صلاة الفجر ولم يصل الفجر إلا بعد طلوع الشمس، وإن شئت فقل إلا بعد أذان الظهر؛ لأنه قام الليل كله، وانقطع لذلك عن أداء الفرض، والنبي عليه الصلاة والسلام يحذر أن يكون الرجل منا كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.

والمنبت: هو المسرع الذي يجري جرياً سريعاً متلاحقاً، فلو أن رجلاً أراد سفراً إلى بلد ما، فركب دابة وظل يضربها على ظهرها، ويأنف أن تمكث وأن تستريح في أثناء الطريق، فإنها ستكل وتعجز عن السير مهما ضربها، فلا هو أبقى الدابة وحافظ عليها، ولا هو وصل إلى البلد التي يريد الوصول إليها، لأنه مسرع على غير العادة متنطع متشدد.

أما الاستمساك بكتاب الله تبارك وتعالى وسنة النبي عليه الصلاة والسلام على منهاج العدل والوسطية الذي كان علي