للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إعادة الأرواح إلى الأجساد في القيامة الكبرى]

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن القيامة قيامتان، وتكلم عن القيامة الكبرى فقال: الأمر الأول في هذه القيامة إعادة الأرواح إلى الأجساد.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ويكون -أي: إعادة الأرواح إلى الأجساد- بعد النفخة الثانية في الصور، وذلك بعد أن فارقتها بالموت، وهذا غير الإعادة التي تكون في البرزخ حين سؤال الملكين للميت عن ربه ودينه ونبيه، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في الصور؛ فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه مرة أخرى، فتتطاير الأرواح من الصور إلى أجسادها وتحل بها.

يعني: أن الأرواح في الصور لا تتعداه ولا تتخطاه، فإذا نفخ في الصور ذهبت الأرواح إلى الأجساد فتركبت فيها.

وفي الحديث القدسي: يقول الله عز وجل: (ليس أول الخلق بأهون علي من إعادته)، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:٢٧]، وقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:١٠٤]، وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:١٥ - ١٦]، وقال تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٨ - ٧٩].

يسوق رحمه الله هذه الآيات وهذا الحديث لإثبات أن هذه الإعادة ليست من باب تجديد الأجساد، وإنما هي من باب إعادتها وخلقها خلقاً جديداً كما خلقها الله عز وجل أول مرة؛ ولذلك جاء في الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الناس يحشرون فيها حفاةً عراة غرلاً) فالناس هم الذين يحشرون وليس سواهم.

قال ابن تيمية: وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون.

يعني: مبدأ البعث بعد الموت قد جاءت أدلته في الكتاب والسنة وأجمع عليه المسلمون، وهذا يدل على أن من أنكر البعث فقد نقض إيمانه وإسلامه من الأساس.

قال: فأما كتاب الله تعالى فقد أكد الله تعالى في كتابه هذه القيم، وذكرها بأوصاف عظيمة توجب الخوف والاستعداد لها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:١ - ٢].

وقال تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:١ - ٣]-اسم من أسماء القيامة- وقال تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:١ - ٥].

والأوصاف ليوم القيامة في القرآن كثيرة جداً، كلها مروعة ومخوفة؛ لأنها عظيمة، وإذا لم نؤمن بها فلن نعمل لها، إذ لا يمكن للإنسان أن يعمل لهذا اليوم حتى يؤمن به، وحتى يذكر له أوصاف هذا اليوم التي توجب العمل لهذا اليوم.

وأما السنة: فالأحاديث فيها كثيرة جداً في إثبات الحوض والصراط والثواب والعقاب والجنة والنار، وقد انعقد إجماع المسلمين إجماعاً قطعياً على الإيمان بيوم القيامة؛ ولهذا كان من أنكره كافراً بالله عز وجل، إلا إذا كان غريباً عن الإسلام أو جاهلاً فإنه يعلم، فإن أصر على موقفه من إنكار البعث بعد الموت فهو كافر.

كما أثبتت الكتب السماوية هذا الأمر، فما من نبي إلا حذر أمته البعث والقيامة، والعقل يوجب ذلك كذلك، إذ لا يتصور عاقل أن يستوي الناس أو أن يستوي الطيبون والأشرار، الصالحون والطالحون، العاملون صالحاً والعاملون سوءاً، لا يستويان قط، بل لا بد أن يجازى هذا وأن يعاقب ذاك؛ ولهذا قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:١١٥ - ١١٦].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:٨٥]، وإن كان الخطاب لشخص النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه عام لجميع الخلائق.