للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تغيير المنكر من شعب الإيمان]

ٌقال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)] وهذا باب عظيم جداً من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأنه أراد أن يقول: وتغيير المنكر من الإيمان؛ لأنه من شعب الإيمان، فقال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لم يخالط الناس ولم يصبر على أذاهم.

أحياناً يبلغ اليأس ببعض الدعاة ورؤيتهم القاتمة لما عليه المسلمون من ضلال وانحراف عن شرع ربهم بأن يؤثر في أحدهم اليأس أن يقيم في بيته وألا يتكلم مع أحد، وهذا الحديث أو النص كفيل وخليق بأن يرده إلى رشده وصوابه.

وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال هلك الناس فهو أهلكهم)، وفي رواية: (فهو أهلكَهم) أي: فهو الذي تسبب في إهلاكهم، أو على الرواية الأولى: فهو أشدهم هلاكاً، ومن قال: (هلك الناس فهو أهلكهم) أي: فهو الذي أهلكهم، وهذا نص كفيل بأن يحاسب كل أحد منا نفسه.

وإذا كان الناس فيهم خلل أو نقص أو عيب أو جرأة أو فجور فلا بد أن يكون في الداعية حظ ونصيب من هذا كذلك، فإذا كان يعيب على الناس أشياء مثل هذه فلا بد أن يرجع لنفسه باتهامها أكثر من اتهامه للناس، حتى يستقيم له الأمر.

وفي حياة الأنبياء وجهادهم أعظم قدوة ونبراس لنا، فنوح عليه السلام الذي مكث في قومه ٍيدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما آمن معه بعد هذه الأعوام كلها إلا قليل، فأعظم عدد ذكر أنهم ثمانون رجلاً، وأقل العدد اثنا عشر رجلاً، وحتى لو كانوا خمسين رجلاً، فمعنى ذلك أنه يؤمن كل عشر سنين رجلاً واحداً، فهذا أسوة وقدوة لنا، خاصة للإخوة في الريف، فالأخ قد يمكث أربع سنوات في القاهرة من أجل الدراسة في الجامعة أو غير ذلك فيمن الله تبارك وتعالى عليه بالعلم الشرعي والفهم الصحيح وغير ذلك، فيذهب إلى قريته بعد التخرج، فيفاجأ بالواقع المر الأليم في قريته، ويعرف أن الناس إنما مكثوا على دين منذ مئات السنين وما عند أحدهم استعداد أن يغير ذلك، فيصدم في واقعه الذي عاش فيه وكان هو أحد أفراده، فيصاب بيأس شديد جداً، فيأتي بعد ذلك من القرية ويشكو مر الشكوى من قومه الذين لا يقبلون دعوته، هو كان أحد أفراد هذا المجتمع الذي لم يقبل دعوة من سبقه، فلا بد من الصبر، فهذه سنة كونية قدرية في أهل الإيمان، بدءاً بالأنبياء والمرسلين وانتهاءً بالصالحين، وحذاري أن تظن أنك إذا آمنت بالله ورسوله، وحملت هذه الدعوة ورفعت لواءها أن الأرض تفرش لك بالحرير، إذا كنت تتصور ذلك فأرجو أن تعتزل وأن تعتذر الآن وتمكث في بيتك، فطريق الدعوة هو أصعب طريق خلقه الله عز وجل؛ ولذلك خلق له أعظم البشر وهم الأنبياء والمرسلون؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعظم الناس بلاءً -وفي رواية: أشد الناس بلاءً- الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) يعني: ثم من يشبه الأنبياء ثم من يشبه من يشبه الأنبياء، وهكذا.

فالمعلوم أن الأنبياء وأتباعهم من الدعاة والعلماء هم على نسق ومنوال واحد من وقوع الأذى بهم؛ لأن الناس الذين انتكست فطرهم إنما يحبون الحياة الدنيا حباً جماً، ويحبون جمع المال من حل ومن حرام، وإن الدعاة هم الذين يقفون حائل صد أمام هؤلاء لبيان الحلال والحرام، وبنهي هؤلاء الذين يرتكبون المنكرات والفظائع والفجور ينهونهم عما هم عليه؛ ولذلك تكون العداوة بينهم وبين أهل الإيمان، وكذلك أصحاب الجاه والمناصب والكراسي وغيرها، كل حظ ليس لله تبارك وتعالى فيه نصيب لا بد أن تحدث العداوة بين أصحاب هذه الحظوظ وبين الدعاة إلى الله عز وجل.

وسنة الله تبارك وتعالى قضت بأن عامة الفساق لهم تمكن في وقوع الأذى بأهل الإيمان ما لم يكن لأهل الإيمان راية تحميهم، فإذا كان الأمر كذلك فينبغي بل يجب على أهل العلم بالذات من أهل الإيمان أن يعدوا صبراً عظيماً جداً وتحملاً فوق طاقة البشر في حمل دعوة الله عز وجل وتبليغ دعوة الحق إلى الخلق.

أما أن تتصور أنك صاحب سنة أو صاحب دين أو صاحب علم أو غير ذلك، وأن الناس ستفرش لك الأرض حريراً ويضعونك على الرءوس فهذا لن يكون، فلا بد أن توقن أن الناس يضعونك تحت أقدامهم، وأن الناس يحاربونك من أول وهلة تخرج عليهم فيها فتسفه أحلامهم، وتبطل ما هم عليه من باطل، وترتفع بإيمانك وعلمك على هذا الواقع الباطل الذي يعيشه الناس، فلو أنك بهذه الأخلاق، وبهذه القوة والمتانة، فلا أحد يتركك، بل كل من استطاع أن يلحق بك الأذى فعل ولا يقصر، فمخالطة الناس والصبر على أذاهم أعظم أجراً ودرجة ممن اعتزل الناس؛ لأنه لم يصبر على أذاهم بلا شك.