[الاستدلال بحديث تحاجج الجنة والنار لإثبات صفة القدم لله تعالى وكلام أهل العلم في ذلك]
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة وقالت النار)، نحن نثبت أن الجنة تتكلم على الحقيقة ولكن ليست لها جارحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا أن هذه الجنة عبارة عن ذات مكونة من صفات وجوارح، وكذلك النار تتكلم بقدرة الله عز وجل، والله تعالى يخلق لها الكلام فتتكلم به، والذي يسمع هذا الكلام هو الله عز وجل، وتسمعه النار وتسمعه الجنة، بدليل الحديث: فقالت النار وقالت الجنة يعني: رداً عليها.
فالجنة تسمع النار، والنار تسمع الجنة، والله تعالى يسمع الجميع.
ولذلك قالت النار: (أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين.
وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم.
فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي.
وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها، فتقول: قط قط.
فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض).
وهذا الحديث رواه غير واحد من الصحابة، منهم أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي بعض رواياته: (حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول: قط قط قط ثلاثاً).
وفي بعضها: (حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط، وعزتك).
فموقف السلف من معنى الحديث: أن هذا الحديث من أحاديث الصفات، وأن القدم صفة من الصفات الخبرية التي تمر كما جاءت دون تأويل أو تحريف في النص، ودون تشبيه أو تمثيل لصفات الله بصفات خلقه، فلا تقاس القدم بأقدام خلقه، ورجله بأرجل مخلوقاته، بل يكتفى بالمعنى الوضعي للكلمة دون محاولة لإدراك حقيقة قدمه، وقد عجزنا عن إدراك حقيقة ذاته سبحانه، فآمنا وسلمنا لله ورسوله، وهذا موقف لا يتغير ولا يتبدل بالنسبة لأتباع السلف، فهو موقف ثابت، وهو اتباع النصوص في جميع الصفات الخبرية أو غيرها، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
والحديث بجميع رواياته يدل على أن الله سوف يخلق في الجنة والنار تمييزاً وقدرة على الكلام دون أن يكون لهما آلات التكلم من الفم والأسنان واللسان وغيرها، وهو المعتاد بالنسبة لنا.
وأما الخلف فقد تكلفوا في تأويل هذا الحديث أكثر من تكلفهم في تأويل أي نص آخر من نصوص الصفات، وذكرنا من قبل تأويل الخلف في المراد بالقدم ورددنا عليه.
وابن الجوزي عليه رحمة الله في كتابه دفع (شبه التشبيه) شن غارة شعواء على بعض علماء السلف.
قال ابن الجوزي: وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية وقال مثله في: (يضع قدمه في النار).
قال ابن الجوزي: وذكر الساق مع القدم تشبيه محض.
وقد اتفقنا من قبل أن ابن الجوزي كان مضطرباً جداً في مسائل الاعتقاد، فهو يريد أن يقول: إن القاضي أبا يعلى أثبت الساق وأثبت معها القدم، وأن إثباتهما يستلزم التشبيه.
وهذا لا يصح عنده.
وليس القاضي أبو يعلى فقط الذي أثبت هذا، بل كل علماء السنة أثبتوا لله عز وجل ما أثبته لنفسه، ومنها الساق والقدم ولم يقولوا بالتشبيه، بل نزهوا المولى تبارك وتعالى عن التعطيل ونزهوه عن التشبيه، وكلام ابن الجوزي ليس فيه شيء من الهداية، بل هو ظلمات بعضها فوق بعض، فإن الأدلة كتاباً وسنة تدل على إثبات ذلك لله، فمن أنكره فإنما ينكر على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى الصحابة الذين نقلوا إلينا ذلك.
وقال ابن الجوزي: وقال أبو يعلى مثله في: (يضع قدمه في النار).
وهذا أيضاً من الحق الذي يجب الاعتقاد والتسليم له، فإن القدم صفة من صفات الله تعالى الذاتية التي يجب الإيمان بها دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تشبيه.
ثم ذكر حديث الاحتجاج بين الجنة والنار، وقوله: (قدمه) وأن الهاء تعود على الرب جل وعلا، وهو قول واحد عند أهل السنة والجماعة، والحديث صحيح صريح في إثبات صفة القدم لله عز وجل.
وذكر بعد ذلك أثر ابن عباس وأثر أبي موسى الأشعري في إثبات أن الكرسي موضع القدمين لله عز وجل؛ لأنه أمر غيبي له حكم الرفع، فلا يقال فيه من قبل الرأي ولا مجال للاجتهاد فيه، فيؤخذ منه إثبات قدمين لله عز وجل، فنثبت ذلك لله تعالى، ونؤمن بأن الله جل ذكره: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١].
قال أحمد بن حنبل: أحاديث الصفات تمر كما جاءت.
أي: الأحاديث التي فيها إثبات صفة لله عز وجل تؤمن بها على حقيقتها، وتفوض كيفية هذه الصفة لله عز وجل، مع كونك تعلم علماً يقينياً أن هذه الصفة ثابتة لله عز وجل.
قال الإمام الثقة الجبل حماد بن سلمة البصري وكان من أشد الناس في زمانه على أهل البدع: من رأيتموه ينكر