[النهي عن الوسوسة في الإيمان]
عقد الإمام مسلم عليه رحمة الله باباً عظيماً في صحيحه في كتاب الإيمان وهو: باب بيان الوسوسة في الإيمان، وما يقوله من وجدها.
فأورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به) فيسألون النبي عليه الصلاة والسلام ويخبرونه بحالهم.
قولهم: (إنا نجد في أنفسنا) أي: نشعر بخاطر يجول في نفوسنا، ويتعاظم أحدنا أن يتفوه بكلمة واحدة منه.
يعني: حتى معك أنت يا رسول الله! لا نستطيع أن نذكر شيئاً من ذلك؛ لأن الأمر عظيم وخطير، فهي وسوسة عظيمة جداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وقد وجدتموه؟) كأنه علم أن الأمة لابد أن تقع في مثل هذا الداء.
فقوله: (وقد وجدتموه؟) سؤال يستنكر به تسلط الشيطان عليهم، وقد فهم النبي عليه الصلاة والسلام عما هم عنه سائلون.
قال: (قالوا: نعم، يا رسول الله! قال: ذاك صريح الإيمان).
بعض الناس فهم من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ذاك صريح الإيمان) أن الوسوسة من الإيمان، وهذا بلا شك انحراف شديد جداً عن فهم أهل العلم من السلف لهذا الحديث.
فقد أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين أن تسلط الشيطان على المؤمن إنما يكون بإغوائه وإضلاله، فإنه قد نجح في إضلاله وإغوائه للكافرين، فإذا فشل الشيطان في إضلال العبد المؤمن -مع أنه نجح في إضلال الكافر- فإنه يتسلط عليه من باب آخر وهو باب الوسوسة والشك في الله عز وجل، وهناك فرق بين عبد جحد الله عز وجل، وعبد شك في الله عز وجل، ففرق بين العبد الجاحد لله وآلائه واستحقاقه للعبودية والربوبية وغير ذلك مما يجب لله عز وجل، وبين عبد آمن وسلم بذلك كله، ولكنه شك في الله عز وجل.
فلما فشل الشيطان مع العبد المؤمن أن يجعله هو والكافر سواء؛ اجتهد عليه في باب الشك والوسوسة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وقد وجدتموه؟) يعني: هو فشل في خلعكم من إيمانكم، ولكنه رضي أن يحرش لكم في الإيمان، وأن يوسوس لكم فيه، والشك إنما هو الحلقة الوسطى بين الإيمان الكامل وبين الكفر، أي: أن الشك هو الطريق إلى الكفر فقال: (وقد وجدتموه؟) يعني: أو قد تسلط عليكم من هذا الباب؟ (قالوا: نعم.
يا رسول الله!) قال: هذا علامة إيمانكم، ولولا أنكم آمنتم بالله عز وجل، وكتبه ورسله واليوم الآخر، واتبعتم النبي عليه الصلاة والسلام ما تسلط عليكم بالوسوسة؛ لأنه لا يوسوس للكافر، وإنما يغويه مباشرة ويضله مباشرة، فالكافر لا يحتاج إلى وسوسة، وإنما يوسوس الشيطان للعبد المؤمن إذا قوي إيمانه بإيقاعه في دائرة الشك في الله عز وجل.
فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن تسلط الشيطان بالوسوسة في الإيمان إنما هو علامة إيمان العبد، فقال: (ذاك صريح الإيمان).
وفي رواية: (أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الوسوسة؟ قال: تلك محض الإيمان) ومحض الإيمان: هو الإيمان الكامل.
إذاً: العبد الذي كمل إيمانه لا يركن إلى كمال هذا الإيمان، بل يجتهد في العبادة، ويجتهد في الطاعة والإخلاص لله عز وجل؛ لأن العبد كلما ازداد إيمانه ازداد الشيطان تسلطاً عليه في باب الوسوسة، فقال لما سئل عن الوسوسة: (تلك محض الإيمان).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله).