[كلام ابن عمر في القول بنسخ الحكم بخلود قاتل المؤمن في النار]
قال: [قال ابن عمر: كنا نرى أن من قتل مؤمناً فقد وجبت له النار.
يعني: كانوا في أول الأمر وفي صدر الإسلام يرون أن من قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه النار.
قال: وكنا نرى أن من أكل مال يتيمه فقد وجبت له النار، ومن أكل الربا فقد وجبت له النار، حتى أنزل الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]].
والشاهد من هذا الحديث: أنهم كانوا يرون أن قاتل المؤمن عمداً قد وجبت له النار، حتى نزل قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨] فلم يستثن من عدم المغفرة إلا ذنباً واحداً وهو الشرك، وعلق مغفرة الذنوب التي هي دون الشرك على مشيئته، فقال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:٤٨]، أي: ما دون الشرك.
{لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].
ومنها القتل سواء كان ذلك قتل المؤمن أو قتل غير المؤمن.
قال: [قال ابن عمر: فلم ندر من يدخل في مشيئة الله ومن يخرج منها، فكففنا ورجونا].
يعني: يقول ابن عمر: لما أنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨] علمنا يقيناً أن الشرك ذنب لا يغفر، وأن ما دون الشرك يغفر إذا أراده الله عز وجل وشاءه، فلما خفيت علينا مشيئة الله في من أراد الله تعالى عذابه بذنبه أو مغفرته تفضلاً منه سبحانه كففنا عما كنا نعتقده أولاً أن آكل الربا قد وجبت له النار، وأن آكل مال اليتيم قد وجبت له النار، وأن قاتل المؤمن عمداً قد وجبت له النار، فكففنا عن هذا المعتقد وقلنا: ما هي إلا ذنوب لا تبلغ درجة الشرك، وإذا كانت دون الشرك فهي داخلة في الذنوب التي علقت على مشيئة الله، فإن شاء أخذ المذنب بها وإن شاء عفا سبحانه وتعالى.
فلما خفي هذا على ابن عمر وغيره من سائر الخلق قال: فكففنا ورجونا.
وكلمة رجونا إشارة إلى معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بمعصية العاصي، فلو عصى إنسان معصية كبيرة فلا نتمنى له أن يدخل النار، وهذا من سعة رحمة رب العالمين، فقد أمرنا أن نترحم على أصحاب المعاصي، ونرجو لهم أن يرحمهم الله عز وجل.
والناس عندهم من المعاصي الظاهرة ما يوجب لهم النار، ولو أراد الله تعالى أن يعاملهم بعدله لأدخلهم النار، ولكنه سبحانه وتعالى يتفضل بالعفو عنهم؛ لأنه الغني عن عذاب عباده.
ونحن عندنا من الذنوب الشيء الكثير الذي يبلغ درجة الزنا وشرب الخمر والقتل أحياناً، وهو الوقيعة في أعراض الناس بالغيبة والنميمة، ونقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، وهذه من كبائر الذنوب، ونحن نقع فيها بالليل والنهار، والإخوة الصالحون يأنفون جداً من سماع لفظ الزنا والسرقة والقتل وشرب الخمر وغير ذلك، وهم أبعد الناس عن ذلك، وإذا كانوا يحرمون السجائر فكيف بالخمر الصريحة؟ وهذا من فضل الله عز وجل على أبناء الصحوة وأصحاب الالتزام، لكن هناك كبائر عظيمة جداً مهلكة لأصحابها يقعون فيها، بل من فرط ما وقعنا فيها استمرأناها، كالغيبة والنميمة وغيرها من الذنوب.
ولو أنك راجعت كتاباً من كتب الكبائر ككتاب الكبائر للإمام الذهبي فإنك ستجد أنه عد اثنتين وسبعين كبيرة، ولعلمت أنك واقع في عشر كبائر على الأقل، مع أنك تنظر بعين السخط لأصحاب الكبائر الظاهرة، في الوقت الذي تقع أنت فيه في كبائر أخرى، لكنها كبائر خفية، مثلما تقع في الغيبة والنميمة في ثوب النصح، ولكن هذا المكر لا يخفى على الله عز وجل.
فينبغي على كل منا أن يعلم الفرق بين كبائر الذنوب وصغائرها، وأن ينزه نفسه ودينه وعرضه عن كبائر الذنوب وصغيرها.
قال: [وقال ابن عمر: كنا نبت على القاتل -أي: نقطع للقاتل عمداً بأنه في النار- حتى نزلت: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فأمسكنا]، أي: فأمسكنا عن هذا البت والقطع.
يعني: كانوا إذا أتاهم قاتل يقول: أنا قتلت مؤمناً، يقولون له: أنت في النار لا محالة، وليس عندنا من العلم إلا هذا، حتى نزل قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:٤٨].
ومنه القتل.