[عدم إيذاء الجار واجتناب الغيبة والنميمة من شعب الإيمان]
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)].
هنا علق حقوق الجار بالإيمان، فلا يحفظها إلا مؤمن، ولا يضيعها إلا إنسان ناقص الإيمان أو فاقد الإيمان.
فالذي يؤذي جاره لا يتحقق لديه كمال الإيمان، فليس من الإيمان إيذاء الجار، بل من الإيمان حفظ حقوق الجار، والجيران في هذا الزمان كاد كل واحد منهم أن يخرج من داره ومن أهله وبيته هرباً مما يحدثه الجار من إزعاج ومعاص وارتفاع بالمذياع وسباب للدين، وسباب للرسول والقرآن والسنة وغير ذلك عياناً بياناً.
ولو كان لهذه الأمة حارس يخشى على دين الله عز وجل لأدب الناس في حجر نومهم، لكن لا حارس للأسف الشديد، فلا يبقى أمام الناس إلا الوازع الديني الذي استقر في قلوبهم، فإذا غاب السلطان والحاكم لا بد من استخلاف الوازع الديني في قلب العبد المؤمن، بحيث يحمله على ملازمة التقوى والمروءة، ويأمره ويحضه على ملازمة التقوى؛ لأن السلطان لا يمكنه أن يفلح في هذا مهما بلغ بجبروته وطغيانه وعدته وعتاده لا يمكن للسلطان أن يسيطر على قلبك، بل القلب موهبة من الله عز وجل، والوازع الديني والإيماني في قلب العبد هو منحة ربانية من الله عز وجل؛ ولذلك لو راقبك العالم أجمع فاستطعت أن تصنع شيئاً في غفلة هؤلاء لفعلت، لكن لو أن العبد قد استكمل الإيمان بقلبه بمعنى أنه حقق خشية الله عز وجل على أعلى مستوى، فلو وضعوه مع أعظم المشتهيات كملكة جمال مثلاً، أو كان يشرب الخمر سابقاً ووضعوه في غرفة خمر مثلاً، لكنه تاب إلى الله عز وجل وعرف الله تعالى، فإنه لا يستطيع بل ولا يجرؤ أن يزني أو يشرب الخمر لأن معه الوازع الديني، ولأنه يملك بين جنبيه مخافة الله عز وجل، فلا يمكن أن ينظر إلى تلك المرأة، بل ربما يراها أذم الخلق، ويراها خبيثة فينصرف عنها، وهذه تكون منحة من الله عز وجل.
والسلطان الحاكم لا تأثير له إلا على الأبدان، أما تأثير الإيمان فإنه ينطلق بالعبد فيمشي في وسط الشوك بلا خدش، لا تخدشه المعاصي ولا تخدشه الشهوات ولا الشبهات من هنا وهناك؛ لأن حارسه نابع من داخله، فلا يتأثر بهذا الفساد الذي يحيط به من كل جانب.
قال: [(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)].
إذاً: الغيبة والنميمة وطول اللسان وهتك الأعراض وغير ذلك ليس من الإيمان، وليست القضية مجرد أنه بمقدورك أن تغتاب ما شئت، ثم تنصرف من المجلس وتقول: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت حتى يُغفر لك ما كان في المجلس، فالقضية هذه متعلقة بالإيمان، وإن غفر الله تعالى لك غيبتك لأخيك في مجلس جلسته واغتبته فيه فيبقى أن إيمانك تأثر بهذا الكلام، فلو كان منسوب الإيمان عندك مثلاً (٧٠%) واغتبت أخاً في الله ربما ينزل إلى (٥٠%) وأقل من ذلك، لأن الغيبة والنميمة وهتك العرض والكلام في أعراض الناس والطعن والقذف؛ كل هذا مناف للإيمان، وقديماً كان السلف إذا ذكرت غيبة في مجلس أنكروا، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر بأمر الله ورسوله، فإذا استجاب القوم وإلا انصرفوا.
ولذلك يقول قائلهم: إذا كنت في مكان به منكر فأنكر، فإن زال وإلا فزل أنت عنه.
أي: فإن استطعت أن تغير هذا المنكر إلى معروف، أو على الأقل تزيل المنكر فافعل، وإلا فيجب عليك أن تقوم من هذا المكان وتنصرف.
ولذلك عذب الله عز وجل بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا إذا رأوا المنكر أنكروا، حتى إذا كان الغد لم يمنع هؤلاء الذين أنكروا بالأمس أن يكونوا معهم في الأكل والشرب والمجالس، والله عز وجل قد لعن قوماً جلسوا على مائدة يدار عليها الخمر.
فهم لم يشربوا وإنما جلسوا على مائدة يدار عليها الخمر؛ فكأنهم رضوا بهذا، والراضي بالذنب كالفاعل للذنب.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء فقال: دعه فإن الحياء من الإيمان).
يعظ أخاه أي: ينهاه.
وليس معنى هذا أن تقول له: ما من داع لأن تستحي كثيراً، فأنت كثير الحياء؛ فبهذا تكون قد نهرته عن الحياء ولم تعظه.
فحينما نرى من عنده حياء فنقول: هذا حيي فوق اللازم وأكثر من اللازم، فنحن ننهره بهذا، بل الحياء كله خير.
إذاً: ما في الحياء شيء اسمه أكثر من اللازم إذا كان هو كله خير كما قال عليه الصلاة والسلام: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، أي: أنه لا يأتي من روائه إلا خير، فهل يقال لفلان: انته عن الحياء؟ أليس النبي عليه الصلاة والسلام حينما سمع رجلاً يعظ أخاه في الحياء، يعني: سمعه يقول له ليس بالضرورة كثرة الحياء، قال له: (دعه فإن الحياء من الإيمان).