[قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في إثبات القدر]
قال: [عن عبد الله يعني: ابن مسعود قال: أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإن الشقي من شقي في بطن أمه]، أي: من كتب الله تعالى عليه الشقاء قبل أن يخلقه.
وهل هذا من الظلم؟ الجواب لا.
لأن الظلم نقص لا يليق إلا بالعباد، والله تعالى منزه عن كل نقص، فإن الله تعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة.
إذاً: فلِم كتب الله تعالى هذا العبد من أهل الشقاء وهو في بطن أمه.
وهو لم يعمل خيراً ولم يقم على الشر، بل لم يولد بعد، فلم كتبه الله تعالى من أهل الشقاء؟
الجواب
لأن الله تعالى علم أزلاً قبل أن يخلق الخلق أن من عباده فلان ابن فلان سيميل إلى الشر مع بيان الشر والخير ووضوحهما له تمام الوضوح، ولكن العبد سيختار طريق الشر، ولذلك العبد له اختيار لأعماله، وليس معنى: أن الله تعالى كتب عليه الشر أنه جعله مقهوراً مجبوراً أن يقع في الشر.
لا، فالله تعالى حينما علم أنه سيعمل الشر ويميل إليه ويترك الخير مع معرفته إياه كتب ذلك سبحانه وتعالى في اللوح المحفوظ: أن عبده فلان سيعمل بالشر.
وهكذا أعطانا الله تبارك وتعالى كل البينات والحجج، فلم يبق لنا بين يدي الله معذرة، بعد أن بين الله لنا طريق الجنة وطريق النار، لو سألناك عن أي عمل تعمله أو لا تعمله: هل هذا يؤدي إلى الجنة أم إلى النار؟ لو سألناك عن الصلاة لقلت: تؤدي إلى الجنة.
فلم تتركها؟ لو سألناك عن الزنا لقلت: يؤدي إلى النار.
فلم تأتيه؟ لماذا تدع الطاعة وتُقبل على المعصية، وأنت تعلم علماً يقينياً أن مآل الصلاة الجنة، ومآل الزنا النار، ومع هذا تخالف ما تعلمه من دينك يقيناً؟ علمت ذلك من الكتب التي أنزلها الله عز وجل عن طريق رسله، والله تعالى جعلك مكلفاً بالغاً عاقلاً مميزاً، فأين حجتك التي تحتج بها أمام الله عز وجل؟ هل ستقول: لماذا يا رب! قدرت هذا علي؟ إذا كان الله قدر عليك الزنا فقدر عليك كذلك الرجم أو الجلد، فهل ترضى أن تُرجم أو تُجلد؟
الجواب
لا، لا أحد يرضى بذلك أبداً، فلم رضيت بشيء أدى بك إلى إيقاع هذه العقوبة ببدنك؟ ولذلك نحن لو أتيناك بطريقين يؤديان إلى غرض واحد، أحدهما قد امتلأ شوكاً والآخر ممهد ملطف، وقلنا لك: اسلك أحد الطريقين فإنهما جميعاً يؤديان إلى غرضك، فأي الطريق ستسلك؟ لا شك أن ستسلك الطريق الممهد، فلِم تختار طريق الشوك الذي يؤدي بك إلى النار؟ قال: [فإن الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره].
أي: علم الله تعالى أن عبده سيختار طريق النار، فحينما علم ذلك من عبده قدره عليه، وأراده له إرادة كونية قدرية لا شرعية دينية.
[عن عبد الله قال: لأن أعض على جمرة وأقبض عليها حتى تبرد في يدي أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يكن].
[عن الحارث قال: سمعت ابن مسعود يقول وهو يدخل أصبعه في فيه قال: لا والله لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر].
وكأن الإيمان شيء محسوس له طعم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً) فهنا صور النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان بالشيء الذي يؤكل أو يُشرب وله مذاق جميل، لكن لا يتذوق الإيمان على هذا النحو إلا رجل آمن بالقدر.
[ويقر ويعلم أنه ميت، وأنه مبعوث من بعد الموت].
[عن ابن مسعود قال: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له نظر الله من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة: اصرفوا عنه] أي: أن العبد يأتي عملاً من أعمال الدنيا، والله تبارك وتعالى ينظر له من فوق سبع سماوات، وربما يكون في هذا العمل شر للعبد، فإن الله تعالى يأمر ملائكته أن يصرفوا عبده عن الإتيان لهذا الفعل.
قال: [فإني إن يسرته له أدخلته النار -أي: بسبب هذا الفعل- فيصرفه الله عز وجل] أي: فيصرف العبد عن إتيان هذا العمل.