[كلام ابن الجوزي عن افتراق أمة الإسلام]
قال: أما أمة الإسلام أمة محمد عليه الصلاة والسلام فقد كانوا عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدة واحدة، كما كان أتباع موسى على عقيدة واحدة ثم أتى بعد ذلك تفرق، وفي زمن عيسى على ذلك، ثم أتى بعد تفرق، فكذلك أمة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا على التوحيد الخالص حتى مات محمد عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا على عقيدة وطريقة واحدة إلا من كان يبطن النفاق ويظهر الوفاق، ثم نشأ الخلاف فيما بينهم في أمور جارية لا توجب كفراً ولا إيماناً.
وهذا كلام جميل فهو يقول: إن الفرقة لا تستحق أن تكون فرقة إلا إذا خالفت في أصل أو قاعدة بينة.
قال: والصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل اعتقادية كرؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة المعراج، وقد أتت نصوص تبين أنه لم يره، وهذه النصوص صحيحة وصريحة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (نور أنى أراه)، كما في حديث أبي ذر، وقالت عائشة رضي الله عنها: (من حدثكم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية).
وجاء أيضاً عن ابن عباس وابن مسعود ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه، ولكن لم يثبت في رواية من رواياتهم أنه رأى ربه بعيني رأسه، ووقع التصريح في روايتهما أنه رآه بفؤاده، وهذا لا يمنع إطلاق الرؤية المعنوية كما في الرواية التي تنكر أنه رآه بعيني رأسه.
وإذا اعتبرنا صحة الخلاف في هذه القضية فإن هذا الخلاف خلاف فرعي.
قال: ثم نشأ الخلاف فيما بينهم في أمور اجتهادية لا توجب كفراً ولا إيماناً.
يعني: لا يبدع فيها المخالف.
فلا تقل: أنا قرأت المسألة بأدلتها واطلعت على أقوال العلماء فيها وترجح لدي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، فمن قال بأنه رأى ربه فهو مبتدع وفاسق وضال؛ لأن القاعدة تقول: إن البدع لا تكون إلا في مخالفة الأصول، والقاعدة الأخرى: ما وسع السلف من خلاف يسع من جاء بعدهم، ونحن لم نسمع أن ابن عباس وابن مسعود بدعا وضللا عائشة وأبو بكر، أو العكس، وهذا يدل على أن هذه المسألة ليست من مسائل الأصول، وإنما من مسائل الفروع، فلما لم يبدع أحدهما الآخر دل على أنها من مسائل الاجتهاد لا من مسائل الأصول المجمع عليها.
قال: وكان غرضه من ذلك إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم، وكان هذا الخلاف يتدرج ويترقى شيئاً فشيئاً إلى آخر أيام الصحابة.
ثم ظهر بعد ذلك معبد الجهني، وبئس المعبد هو.
وهو معبد بن عبد الله بن عكيم الجهني نزيل البصرة، وهو أول من تكلم في القدر في أواخر زمن الصحابة رضي الله عنهم.
قال الأوزاعي: أول من نطق في القدر هو سوسن النصراني، ثم أخذ الكلام في القدر عن سوسن معبد الجهني، ثم عن معبد الجهم بن صفوان.
واعلم أن أصول البدع عندنا أخذت عن أهل الكتاب، وقد قال السلف: ما من بدعة ظهرت في الإسلام إلا ولها شبه في الأمم السابقة.
وقال الحسن البصري: إياكم ومعبد فإنه ضال مضل.
وقال الذهبي: كان من علماء الوقت على بدعته، هلك قبل التسعين.
ثم في نفس الوقت الذي ظهر فيه معبد الجهني ظهر غيلان بن أبي غيلان الدمشقي، وقد تكلم كذلك في القدر، وقتل بسبب كلامه في القدر، وهو ضال مسكين، وكان من بلغاء الكتاب.
وفي نفس التوقيت يونس الأسواري، وقد خالف هؤلاء الثلاثة في القدر وإسناد جميع الأشياء إلى تقدير الله تعالى، ولم يزل هذا الخلاف يتشعب والآراء تتفرق حتى تفرق أهل الإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقة، كما روي عنه عليه الصلاة والسلام.