[موقف أهل العلم من داود الجواربي]
قال: [تكلم داود الجواربي في التشبيه]، وداود الجواربي من أئمة الضلال، ولقب بـ الجواربي لأنه من محلة ببغداد كانت تصنع الجوارب، وكان يسكن في هذه المحلة فنسب إليها.
قال: [فاجتمع إليه أهل واسط بالعراق منهم: محمد بن يزيد وخالد الطحان وهشيم وغيرهم فأتوا الأمير -أي: أمير البلد- وأخبروه بمقالته، فأجمعوا على سفك دمه].
مع أنهم لم يقولوا بسفك دم من سمعه، أو بسفك دم من تبعه، وإنما أجمعوا على سفك دمه هو؛ لأنه داعية إلى بدعته، ولأنه عالم بما يقول بخلاف الأتباع.
قال: [فمات في أيامه فلم يصل عليه علماء أهل واسط] أي: مات قبل أن يتمكن منه السلطان، فلما أجمعوا على سفك دمه طلبوه حتى يقتلوه، ففر وفي أثناء فراره مات، فلم يصل عليه أحد من أهل العلم في ذلك الزمان، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من صلى عليه أمة من المسلمين يبلغون أربعون -وفي رواية: مائة- يوحدون الله تعالى ولا يشركون به شيئاً؛ شفعوا فيه).
فإذا لم يكن أهل العلم هم الموحدون لله عز وجل حقاً وبعلم وبصيرة فمن هم إذاً؟ فإذا امتنع العلماء عن الصلاة على رجل فهذه عين الخسارة، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يترك الصلاة أحياناً على بعض أصحابه؛ تأديباً للأمة أن يقعوا في مثل ما وقع فيه، كما ترك الصلاة على ماعز الأسلمي، وصلى على المرأة الغامدية والجريمة واحدة، ولكن توبة الغامدية كانت أحسن ظهوراً من توبة ماعز.
فقد ساق سيد ماعز وهو نعيم بن هزال ماعزاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، واستدرجه وقال له بعد أن أخبره بالزنا: (اذهب بنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام لعله ينزل فيك قرآناً) يعني: بالتوبة، وهو يعلم أن القرآن قد نزل بوجوب الحد، وأن الحد إذا بلغ السلطان أو الأمير أو الحاكم فلا شفاعة فيه، بل لا يجوز للحاكم أن يسامح فيه؛ لأن ذلك ليس من اختصاصه، وإنما من اختصاص الحاكم أن يغير وأن يبدل في التعزير، وأما في الحد فلا.
فلما بلغ ماعز إلى النبي عليه الصلاة والسلام شهد عنده أربع مرات بالزنا، فلما شهد قال: (أقيموا عليه الحد)، فلما أجمعوا على حده فر منهم، فلقيه رجل فضربه بوظيف كان معه فقتله، فلما قتل وبلغ أمره إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أقتلتموه؟ هلا تركتموه؟ وغضب غضباً شديداً وقال: صلوا على صاحبكم، فصلوا عليه ولم يصل النبي عليه السلام عليه).
وأما المرأة الغامدية التي زنت بعد ماعز فقد أتت إليه عليه الصلاة والسلام وقالت: (لا تفعل معي كما فعلت بـ ماعز بالأمس)، لأن ماعزاً لما أتى وشهد عنده بالزنا أول مرة أشاح عنه بوجهه، ولم يقبل منه هذا، فأتاه من قبل وجهه فشهد عنده الثانية فأشاح عنه أربع مرات، وماعز يصر على أن يبلغ الخبر النبي عليه السلام.
قال: (لعلك قبلت؟ قال: زنيت، فقال: لعلك فاخذت؟ قال: زنيت) ثم قال: (أتدري ما الزنا؟ -يعني: أنت تعرف ما معنى الزنا؟ - قال: نعم، قال: أغاب هذا منك في ذاك منها كما يغيب المرود في العين، أو كما يغيب الرشاء في البئر، قال: أقيموا عليه الحد).
فـ الغامدية قالت: (يا رسول الله! أنا زنيت).
وفي رواية: (إني فجرت فطهرني، وهذا حملي من الزنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين وليها؟ قال: هأنذا.
قال: اذهب بها فأكرمها حتى تضع حملها) وهي زانية عاصية ولكنه قال: أكرمها، لا لأنها زنت ولكن لأنها تابت وصدقت مع الله عز وجل.
(فذهبت حتى وضعت حملها وأتت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: هذا ولدي من الزنا، وإني قد أتيتك بالأمس فأمرتني أن أضع حملي وهذا هو، فطلب وليها وأمرها أن تذهب حتى تفطمه) فذهبت ومكثت عامين وأتت بالغلام للمرة الثالثة وكان بإمكانها ألا تأتي والنبي عليه الصلاة والسلام لا يبحث عنها، وإنما هي تبحث عن الطهارة والنقاء ومغفرة الذنب.
(فأتت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وفي يد ولدها كسرة من خبز وقالت: هذا ولدي قد فطمته وهو يطعم، فأمر بها فشد عليها ثيابها ورجمت، وصلى عليها النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى ذلك بعض أصحابه قال: أتصلي عليها وهي زانية؟ قال: إنها تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لوسعتهم).
وفي رواية: (إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس -يعني: جامع الضرائب- لتاب الله عز وجل عليه).
وفي حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جيء إليه برجل ليصلي عليه، قال: (عليه دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: صلوا على صاحبكم)، فأمرهم بالصلاة عليه وامتنع هـ