[ظهور الاتجاه العقلي]
قال: [فمضت على هذه القرون سنون كثيرة ينصح فيها الأولون الآخرين، حتى ضرب الدهر ضرباته، وأبدى من نفسه حدثانه، وظهر قوم أجلاف زعموا أنهم لمن قبلهم أخلاف -هؤلاء أصحاب الاتجاه العقلي الذين يقولون: نحن خلف للسلف- وادعوا أنهم أكثر منهم في المحصول].
أي: أن التلاميذ الذين هم باختصار شديد: المعتزلة، لما أتوا بعد ظهور هذه البدع قالوا: صحيح أننا نتبنى الآراء التي قال بها أسلافنا، إلا أننا قد حصلنا من العلم ما لم يحصلوه، وإن كانوا هم قد خافوا أن يجادلوا الحكام، وأن يجادلوا أهل العلم، فنحن الآن على أتم الاستعداد لمجادلتهم؛ لأن عندنا من العقل والعلم والتحصيل والذكاء والفطنة ما ليس عندهم، وأيضاً عندنا الجرأة على النقاش.
هذه الجرأة سببها ضعف الحكام، ولو كان مع الحاكم مجموعة من أهل العلم كمجلس الحل والعقد مثلاً، أو مجلس الشورى الذين يبتون في أقوال كل مبتدع، ثم يأمرون الحاكم بأن هذا مخالف، أو هذا موافق، أو هذا متأول ولكل جزاؤه، لاندحر كل مبتدع ودخل في جحره.
قال: [وادعوا أنهم أكبر منهم في المحصول، وفي حقائق المعقول، وأهدى إلى التحقيق -أي: أنهم أكثر وصولاً وتحصيلاً لدقائق المسائل من أسلافهم- وأحسن نظراً منهم في التدقيق، وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم].
أي: أن المتقدمين لم يكن لهم بصيرة نافذة؛ لأنهم كانوا أعجز من أن يفكروا في كل أمر، وينظروا في كل مسألة.
قال: [ورغبوا عن مكالمتهم لقلة فهمهم].
أي: أنهم يسبون أسلافهم، وهذا للعلم أنه معلم من معالم أهل البدع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أهل السنة أرحم بأهل البدع من بعضهم لبعض، وأعدل لأهل البدع من بعضهم لبعض؛ لأن أهل البدع يقومون بعضهم بعضاً بالتكفير والتفسيق والتبديع والسباب والشتائم.
وهو الآن يقول: [وأن المتقدمين تفادوا من النظر لعجزهم].
أي: لم يكونوا يستطيعون النظر في دقائق المسائل مثلهم.
كما رغبوا عن مكالمتهم، أي: أن أسلافهم لم يستطيعوا مواجهة أهل السنة لقلة فهمهم، فيقال لمن يتبعهم: أنت متأكد أن سلفك في هذه القضية لم يكن عنده فهم ولا عقل ولا بصيرة ولا شيء؟ سيرد عليك قائلاً: نعم.
إذاً: هو لا يصلح، وأنت قد حصلت ما لم يحصل.
قال: [وأن نصرة مذهبهم في الجدال معهم حتى أبدلوا من الطيب خبيثاً، ومن القديم حديثاً، وعدلوا عما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه الله عليه، وأوجب عليه دعوة الخلق إليه، وامتن على عباده إتمام نعمته عليهم بالهداية إلى سبيله، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:٢٣١]، فوعظ الله عز وجل عباده بكتابه، وحثهم على اتباع سنة رسوله] الكريم صلى الله عليه وسلم.
عجز المبتدعة أن يتخذوا من هذه الآية وأمثالها منهجاً ونبراساً يقتدون به.
قال: [وقال في آية أخرى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:١٢٥]، لا بالجدال والخصومة، فرغبوا عنهما -أي: فرغب أهل البدع عن هذين- وعولوا على غيرهما، وسلكوا بأنفسهم مسلك المضلين، وخاضوا مع الخائضين، ودخلوا في ميدان المتحيرين، وابتدعوا من الأدلة ما هو خلاف الكتاب والسنة].
أي: جعلوا لهم أصولاً تخالف الكتاب والسنة، فبعد أن كان الأمر أننا نعرض كل شيء على الكتاب والسنة، صار الآن عند أهل البدع أن الكتاب والسنة مطلوب أن يعرضا على أصولهم التي اخترعوها وابتدعوها.
قال: [رغبة للغلبة، وقهر المخالفين للمقالة.
ثم اتخذوها -أي: هذه الأصول التي ابتدعوها- ديناً واعتقاداً بعدما كانت دلايل الخصومات والمعارضات].
أي: أنه منهج اتخذوه من أجل أن يغلبوا به الخصم، وهذا المنهج سرعان ما صار أصلاً ودليلاً، ثم اعتقاداً، ثم ديناً.
قال: [وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين] أي: أنهم حكموا على غيرهم ممن يخالفهم في هذه الأصول من أهل السنة بأنهم من أهل الضلال.
قال: [وتسموا بالسنة والجماعة].
أي: أن أصولهم لا علاقة لها بالكتاب والسنة، ومع ذلك يضللون المخالف لهم ويسمون أنفسهم بأهل السنة والجماعة.
قال: [وضللوا من لا يعتقد ذلك من المسلمين، وتسموا بالسنة والجماعة، ومن خالفهم وسموه بالجهل والغباوة -أي: وصفوه بأنه من أجهل الناس وأغبى الناس- فأجابهم إلى ذلك من لم يكن له قدم في معرفة السنة -أي: من الجهلة- ولم يسع في طلبها -أي: لم يسع في طلب السنة- لما يلحقه فيها من المشقة، وطلب لنفسه الدعة والراحة] ولذلك معظم أتباع أهل البدع جهال؛ لأنهم لم يطلبوا العلم، ولم يعهد عليهم قط طلب للعلم.
قال: [واقتصر على اسمه دون رسمه لاستعجال الرياسة] أي: أنه يتزيا بزي أهل العلم، لكنه في حقيقة الأمر لم يطلب العلم استعجالاً للرياسة.
قال: [ومحبة اشتهار الذكر عند العامة، والتقلب بإمامة أهل السنة، وجعل دأبه الاستخفاف بنقلة الأخبار].
كما حدث لـ أبي علي الأبار عندما ذهب إلى الأهواز، قال: فدخلت مسجد