أما في الدنيا فإن الله تبارك وتعالى لا يرى بعين الرأس البتة، ولكن يراه النبي عليه الصلاة والسلام في منامه، والدليل الأحاديث التي وردت في اختصام الملأ الأعلى، فهي صريحة في أنه رأى ربه بفؤاده في المنام، وليس هناك أثر واحد يثبت صحة رؤية المولى تبارك وتعالى بعين الرأس في الدنيا لا للأنبياء، ولا للملائكة، ولا لغيرهم، وكلام هؤلاء الذين يزعم أحدهم أنه يراه بعيني رأسه في الدنيا ضلال كما تقدم.
ومثل ذلك من يزعمون أنهم يرونه في بعض الأشخاص، يقول أحدهم: أنا رأيت الله في فلان، ولا يقول هذا الكلام إلا الحلولية والاتحادية الذين يقولون: إن الله يحل في المخلوقات، ويتحد معها حتى يكون المخلوق هو الخالق، والخالق هو المخلوق.
فيقولون: إنهم يرونه في بعض الأشخاص، إما في بعض الصالحين أو بعض المردان، أو بعض الملوك أو غيرهم.
قال: فعظم ضلالهم وكفرهم، وكانوا حينئذ أضل من النصارى الذين يزعمون أنهم رأوه في صورة عيسى بن مريم، وهؤلاء الذين يقولون: إن الله يحل في المخلوقات هم أضل من أتباع الدجال الذي يكون في آخر الزمان، وفيهم شعبة من شعب النصارى، واعلم أن هناك ناساً آخرين شراً من هؤلاء، يعممون الرؤية في جميع الخلق، فيقولون بحلول الله عز وجل أو اتحاده في جميع الموجودات حتى في الكلاب والخنازير والنجاسات، وهذا القول كفر، وهو يشبه قول من قال: إن الله موجود في كل الوجود بذاته؛ لأنه يلزمه أن يقول: إن الله تعالى في الحمامات، وفي الحشوش، وفي الأماكن النجسة بذاته.
وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون العلو والفوقية لله عز وجل، وأنه استوى على العرش كيف شاء، وأنه مع عباده ومع خلقه بسمعه وعلمه وبصره وإحاطته، فيتنزه ربنا تبارك وتعالى عن قول هؤلاء الذين يوجدون الله تبارك وتعالى في هذه الأماكن التي ينبغي أن يتنزه عنها المسلم فضلاً عن رب المسلم.
فهؤلاء الضالون يقولون بأن الله تعالى يتحد ويحل في جميع الموجودات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات، كما يقول ذلك قوم من الجهمية، ومن تبعهم من الاتحادية -أي: الصوفية- كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وغيرهم، ومذهب جميع المرسلين ومن تبعهم من المؤمنين وأهل الكتب، -يعني: اليهود والنصارى- أن الله سبحانه وتعالى خالق العالمين، ورب السماوات والأرض وما بينهما أجمعين، ورب العرش العظيم، والخلق جميعاً عباده، وهم فقراء إليه، هذا كلام المعتدلين من أهل الكتاب قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ومع هذا فهو معهم أينما كانوا، كما قال سبحانه وتعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الحديد:٤]، فأثبت في أول الآية العلم، وأثبت في آخر الآية البصر والرؤية.
إذاً: فمعيته لخلقه معية علم وبصر وسمع، وهو معكم أينما كنتم، فهؤلاء الضلال الكفار الذين يزعم أحدهم أنه يرى ربه بعينيه، وربما زعم أنه جالسه وحادثه أو ضاجعه، وربما يعين أحدهم آدمياً إما شخصاً، وإما صبياً أو غير ذلك، ويزعم أنه كلمه؛ يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، وكانوا كفاراً؛ إذ هم أكفر من اليهود والنصارى الذين قالوا:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}[المائدة:١٧]، فإن المسيح رسول كريم وجيه عند الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومن المقربين، فإذا كان الذين قالوا: إنه هو الله، وإنه اتحد به أو حل فيه قد كفروا وعظم كفرهم، بل الذين قالوا: إنه اتخذ ولداً، حتى قال:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:٨٨ - ٨٩] أي: مفترى، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:٩٠ - ٩٣].
فكيف بمن يزعم في شخص من الأشخاص أنه هو؟ فهذا أكفر من الغالية الذين يزعمون أن علياً رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت هو الله، كما زعمت السبئية من الشيعة، يزعمون أن عليا هو الله تعالى، وهؤلاء هم الزنادقة الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، وأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، وقذفهم فيها بعد أن أجلهم ثلاثاً ليتوبوا، فلما لم يتوبوا أحرقهم بالنار، واتفق الصحابة رضي الل