[الأدلة على أن الإيمان قول باللسان]
وأراد الإمام في هذا الباب أن يبين أدلة هذا عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان.
والأدلة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام على صحة ما عليه أهل السنة والجماعة، على أنه تلفظ باللسان؛ قول الله عز وجل: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:١٤].
هذه الآية لم تنف عن الأعراب أصل الإيمان، وإنما نفت كماله وتمامه، قالت الأعراب وزعمت الأعراب أنهم آمنوا، والله تبارك وتعالى رد عليهم زعمهم فقال: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:١٤]، يعني: لم يدخل الآن، ولكنه سيدخل في المستقبل بالعمل، و (لما) لنفي الحال وجواز وقوعه في المستقبل.
لا أعني من هذا أن الله تعالى نفى عنهم الإيمان من أصله، ففي الدروس الماضية قد بينا الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فمطلق الإيمان: هو أصل الإيمان، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل.
إذاً: الله تبارك وتعالى نفى عنهم مطلق الإيمان؛ لأنهم لم يعملوا بعد، ولذلك أوقفهم الله تعالى عند حد الإسلام؛ لأنهم أقروا به ولم ينف عنهم أصل الإيمان؛ لأن المسلم إذا تلفظ بالشهادتين يلزمه أصل الإيمان بجوار الإقرار والنطق بالشهادتين حتى يكون مسلماً صحيح الإسلام.
فلو قال إنسان تعوذاً: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ يعني: خائفاً من السيف؛ أول ما تمكن منه المسلم في ساحة الجهاد نطق بالشهادتين، لكنه لم ينطق بها معتقداً بذلك قلبه وإنما مخافة السيف.
ولذلك أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على أسامة بن زيد لما قتل من نطق بالشهادتين في الجهاد؛ لما تمكن منه أسامة قال: (يا رسول الله! والله ما قالها إلا تعوذاً، قال: أشققت عن صدره؟)، يعني: ما يدريك أنه قالها تعوذاً ربما يكون صادقاً.
فهذا يدل على أن لنا الظواهر والله يتولى السرائر؛ فالله يتولى فعل هذا المتعوذ الذي اضطر حتى نطق بالشهادتين، ولذلك {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:١٤]، ولم من ألفاظ النفي، لكنه لم ينف مطلق الإيمان وإنما نفى الإيمان المطلق؛ نفى كمال الإيمان وتمامه؛ لأن من نطق بالشهادتين يلزمه محبة هذه الكلمة والرضا بها، والاقتداء بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وتقديم محبة الله ورسوله على محبة غيره، وغير ذلك من مقتضيات وشروط هذه الكلمة؛ كالعلم واليقين والصدق.
فإذا جمع هذه الأعمال القلبية من الصدق والمحبة والرضا وغير ذلك إلى هذه الكلمة فهذا يسمى عمل القلب، وقد قلنا من قبل: إن الأعمال أعمال جوارح وأعمال قلب، أما أعمال القلب فهذه يطلق عليها من أول وهلة أصول الإيمان؛ ولو أن شخصاً نطق بالشهادتين ولم يكن في حال نطقه بالشهادتين مقراً بقلبه بيقين وصدق وإخلاص وحب لهذه الكلمة لا يكون مسلماً عند الله.
ولذلك لابد أن يجمع مع الإقرار محبة هذه الكلمة والصدق في نطقها، والاستعداد التام للعمل بمقتضاها والعلم بمعناها الحقيقي لله عز وجل، وغير ذلك من شروط التوحيد.
فإذا اكتملت هذه الأعمال القلبية في حال النطق بالشهادة فيكون قد جمع أصول الإيمان في قلبه مع النطق بالشهادتين.
فإذاً: قول الله عز وجل: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:١٤]، أي: لم تؤمنوا الإيمان الكامل، وأصل الإيمان موجود في قلوبهم.
وهنا بين النبي عليه الصلاة والسلام شرط نطق الشهادتين باللسان، وذلك لمن كان قادراً على ذلك بخلاف من كان أخرس أو أبكم لا يستطيع أن ينطق، أو لا يستطيع أن يتكلم من أصله فإنه لا يلزمه ذلك إلا إذا علم ذلك بالإشارة، وإنما تكفيه الإشارة.
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله -أي: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا بألسنتهم لا إله إلا الله- فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل).