[كلام الجويني في صفة النزول]
يقول أحد المحققين من الشافعية، وهو والد الإمام الجويني إمام الحرمين كلاماً جميلاً مع أنه أشعري.
قال: والذي شرح الله صدري - أي: والذي شرح الله له صدري - في حال المتكلمين الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء، والنزول بنزول الأمر، واليدين بالنعمتين والقدرتين، أنه ما فهموا من صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين، فما فهموا عن الله تعالى استواءً يليق به ولا نزولاً يليق به ولا يدين تليق بعظمته بلا تكييف ولا تشبيه، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه، وعطلوا ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله.
قال: ولا ريب ولا شك أننا نحن وهم متفقون على إثبات صفة الحياء والسمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والكلام لله تعالى، ونحن قطعاً لا نعقل من الحياء والسمع والبصر والعلم إلا أعراضاً تقوم بجوارحنا.
يعني: لما تقول: الله تعالى حي وآدم حي، فحياة آدم أنا أعلمها؛ لأنها كحياتي أنا، لكن حياة الله عز وجل تختلف عن حياة آدم، ولا أعلم كيفية حياته سبحانه، فأنا أثبت الحياة الكاملة التي لا يطرأ عليها فناء ولا فساد لله عز وجل، بخلاف حياتي فإنه يطرأ عليها العلل والأدواء والأمراض كلها وتنتهي وتفنى وتزول، فحياة المولى عز وجل تختلف عن حياة المخلوقين، فإياك أن تتوهم أن الله حي بحياة تليق بحياتك أنت، يا مخلوق يا ضعيف! يا من تنتهي حياتك في يوم ما! قال: ونحن قطعاً لا نعقل من الحياة والسمع والبصر والعلم إلا أعراضاً تقوم بجوارحنا، فكما يقولون: حياته تعالى وعلمه وسمعه وبصره ليست بأعراض.
فأنت تثبت أن لله تبارك وتعالى عينين، لكن هل هما جارحتان؟ لا، وكذلك اليد والساق وغيرهما من صفات الذات لله تبارك وتعالى.
قال: فكما يقولون: حياته تعالى وعلمه وسمعه وبصره ليست بأعراض بل هي صفات كما تليق به.
أي: صفات كمال لا أعرف كيفيتها، لكنني أعلم علماً يقينياً أن الله تعالى حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، فأنا لا أعرف الشيء إلا من خلال أمرين: الأمر الأول: أن أراه هو.
فهل رأيت الله عز وجل؟ وهل لله مثيل؟ لا.
ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته، فإذا كنت أجهل كيفية الذات سأجهل كيفية الصفات، لأنني لم أر ذات المولى تبارك وتعالى، فلا يمكن أبداً أن أمثل صفات الخالق بصفات المخلوقين.
قال: بل هي صفات كمال كما تليق به لا كما تليق بنا، ومثل ذلك بعينه: فوقيته واستواؤه ونزوله ونحو ذلك، نقول فيه بأن الكيف مجهول.
قال: وكل ذلك ثابت معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق، بل كما يليق بعظمته وجلاله، فإن صفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، ولا فرق بين الاستواء والنزول والسمع والبصر، الكل ورد في النص.
فإن قالوا في الاستواء والنزول: شبهتم.
يعني: إن قالوا لنا: أنتم تثبتون الاستواء والنزول؟ نقول: نعم.
فيقولون لنا: شبهتم.
فنقول لهم: في السمع والبصر شبهتم أنتم؛ لأنكم أصلاً لا تثبتون النزول ولا تثبتون الاستواء، إنما تثبتون السمع والبصر، فإذا كنتم تدعون أننا مشبهة لأننا نثبت الاستواء والنزول، فأنتم أيضاً مشبهة؛ لأنكم أثبتم السمع والبصر؛ لأنه لا فرق بين الاستواء والنزول والسمع والبصر، كلها صفات لله عز وجل.
قال: قلنا لهم: شبهتم كما شبهنا، ووصفتم ربكم بالعرض.
فإن قالوا: لا نثبت له عرضاً، بل كما يليق به تعالى في السمع والبصر.
قلنا كذلك: ونحن نثبت له الاستواء والنزول كما يليق به تبارك وتعالى.
فجميع ما يلزموننا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب من التشبيه، نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم، فكما هم لا يجعلونها أعراضاً كذلك نحن لا نجعلها جوارح، ولا أعراضاً ولا ما يوصف به المخلوق.
وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين، فيحتاجون إلى التأويل والتحريف، ونفهم ذلك في الصفات السبع.
وهم السبعية من الأشاعرة.
قال: وحيث نزهوا ربهم في الصفات السبع مع إثباتها فكذلك يقال في غيرها، فإن صفات الرب تبارك وتعالى كلها جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة.
فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل وأولنا هذه وحرفناها كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفي هذا بلاغ وكفاية.
انتهى كلام والد إمام الحرمين الإمام الجويني عليه رحمة الله.