[ظهور بدعة القدر]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلم تزل الكلمة مجتمعة والجماعة متوافرة على عهد الصحابة الأول ومن بعدهم من السلف الصالحين، حتى نبغت نابغة بصوت غير معروف، وكلام غير مألوف في أول إمارة المروانية -أي: في عهد عبد الملك بن مروان - تنازع في القدر وتتكلم فيه، حتى سئل -أي: عنهم- عنهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما].
وذلك لما أتاه يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن من البصرة، فأتوه وهو يطوف حول الكعبة، فقالوا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فنسأله عما ظهر عندنا بالبصرة.
والذي ظهر عندهم هو: أن معبداً الجهني تلميذ سوسن النصراني الذي أسلم ثم ارتد، ثم أسلم ثم ارتد.
هذا سوسن الذي هو رأس الفتنة في البصرة، ولك أن تتصور تلميذ هذا الرجل: معبد الجهني فهل ينتظر منه خير؟
الجواب
لا.
فـ معبد ظهر ببدعة لم يكن لأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ولا للتابعين بها عهد منذ حياة النبي عليه الصلاة والسلام وإلى يومنا هذا.
هذه البدعة: أنه ينكر أصل القدر ويقول: لا قدر وأن الأمر أنف.
أي: مستأنف.
بمعنى: أن الله تعالى لا يعلم حقيقة الأشياء إلا بعد وقوعها، فهو بذلك قد سوى الخالق بالمخلوق، فأنت كمخلوق لا تدري ما الذي سيكون بعد لحظة، فسوى بك الخالق سبحانه وتعالى، وقال: وكذلك الخالق لا يعلم وقوع الأشياء إلا بعد وقوعها، وقال بأن الله تعالى ليس هو الخالق لأفعالنا وإنما أفعالنا بإرادتنا ونحن الذين نخلقها ولا دخل لله عز وجل فيها.
ولا شك أن هذا كفر بواح؛ لأنه نفى العلم السابق لله تعالى، مع أن الله تعالى علم كل شيء، علم ما كان وما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، ولم يخف عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فهذا الرجل إنما أتى ليضرب المسلمين في صميم عقيدتهم بنفي علم الله عز وجل الثابت له في الكتاب والسنة.
ولذلك لما دخل يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن قالا: لعلنا نوفق إلى واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فنسأله عما ظهر عندنا بالبصرة.
قال -أي: يحيى بن يعمر -: فوفق لنا عبد الله بن عمر، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره.
قال: فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي -أي: سيدعني أتكلم معه- فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم -وفي رواية: يتفقرون، أي: يتتبعون دقائق وعويص المسائل- ويقرءون القرآن، يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف.
فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني براء.
أي: لا هم مني ولا أنا منهم.
والإمام النووي وغيره ينقلون هذا اللفظ من قول عبد الله بن عمر.
يعني تكفيرهم وإخراجهم من ملة الإسلام؛ لأنهم أنكروا معلوماً من دين الله بالضرورة، فأنكروا صفات الله عز وجل وأسمائه، ولذا فالذي ينفي عن الله صفات أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله، أو ينفي عن الله اسماً أثبته لنفسه، أو أثبته له الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام لابد وأنه يستحق هذا الحكم، خاصة وإن كان من أهل العلم؛ لأنه قال: (يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم).
يعني: أنه ليس بجاهل، فهو لم يقل هذا عن جهل، وإنما قاله عن خبث طوية وسوء نية مع توفر العلم لديه.
فمن ذا الذي يقيم الحجة على معبد الجهني؟ لا أحد؛ لأنه من أكابر أهل العلم، لكنه تلقى علمه من مشكاة غير مشكاة النبي عليه الصلاة والسلام، تلقى العلم من مشكاة سوسن، مشكاة أهل الكتاب، فكان جديراً وخليقاً بأن يستحق الطرد من رحمة الله، ولذا طرده عبد الله بن عمر فقال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم مني براء.
وهذا يعني الكفر والخروج من ملة الإسلام.
عند هذه الحادثة لا أقول: كانت بداية ظهور البدع على جهة العموم، وإنما أقول: هي أول نقطة في ظهور بدعة القدر.