[شرح حديث قاتل المائة نفس]
قال: [وعن أبي سعيد الخدري: أنه حدث أصحابه قال: لا أحدثكم إلا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته أذناي ووعاه قلبي: (أن عبداً قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل -أي: راهب- فأتاه، فقال: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ فقال: أبعد قتل تسعة وتسعين نفساً؟)] يعني: جئت تسأل عن التوبة بعدما قتلت تسعة وتسعين نفساً.
قال: [(فانتضى سيفه فقتله فأكمل به المائة)]، يعني: فأشهر سيفه وقتله؛ لأنه أيسه من رحمة الله عز وجل، فقد قال له: قتلت مائة نفس وتريد تتوب؟ كيف تتوب؟ فأيسه من رحمة الله، فأتم به المائة.
قال: [(ثم عرضت له التوبة)]، يعني: ثم فكر في التوبة من جديد: [(فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل فأتاه، فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟)]، واللغة تسمح بأن يعبر الشخص عن نفسه بضمير الغائب.
[(قال العالم: من يحول بينك وبين التوبة؟)] يعني: ومن الذي يمنعك من ذلك إذا كان باب التوبة مفتوحاً؟ والله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، والتوبة تكون من المعصية، والله تعالى يقبل توبة العبد، وهي التوبة الخاصة بكل عبد على حدة، بخلاف التوبة العامة، فإن بابها مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، فحينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
وأما التوبة الخاصة بكل عبد على حدة فوقتها الذي ترفع فيه ولا يقبل من صاحبها توبة هو أن تبلغ الروح الحلقوم ويصل إلى الغرغرة، أي: أن يشرف على الموت، فإذا أشرف على الموت وعاينه قال: إني تبت الآن، ولا يقبل منه ذلك.
قال: [(من يحول بينك وبين التوبة؟ اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها)]، يعني: أيضاً فتح له باب الأمل والرجاء في سعة رحمة رب العالمين، ثم وصف له الطريق الذي ينجو به، وهو أن يهجر أرض السوء والمعصية وصحبة الباطل وينصرف إلى أرض جديدة يعبد الله تعالى فيها ولا يشرك به.
قال: [(اخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة كذا وكذا، فاعبد ربك فيها.
قال: فخرج فعرض له أجله)]، يعني: أدركه أجله في أثناء الطريق قبل أن يصل.
[(فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة، فقال إبليس عليه لعنة الله: لم يعصني ساعة قط -يعني: هذا تبعي، ومن حزبي- فقالت ملائكة الرحمن: إنه خرج تائباً)] أي: يردون على إبليس فهو لم يعصك قط، لكن آخر أمره هو التوبة والرجوع والإنابة، والأعمال بالخواتيم كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
قال: [(فبعث الله ملكاً فاختصموا إليه)، يعني: رضوا بأن يحكم بينهم].
قال: [(فاختصموا إليه، قال: انظروا إلى أي القريتين كان أقرب)] أي: قيسوا ما بين القريتين التي خرج منها والتي هو قادم إليها، فأياً كان قربه إليها فهو من أهلها، فإذا كان لا زال في النصف الأول فقرية الخبث أولى به، وإذا كان أقرب إلى القرية التي هو ذاهب إليها فهو إلى الرحمة أقرب، قال: (انظروا إلى أي القريتين كان أقرب فألحقوه بها.
قال قتادة: فحدثنا الحسن: أنه لما عرف الموت احتضر بنفسه فقرب الله منه القرية الصالحة، وباعد منه القرية الخبيثة فألحقه بأهلها)]، يعني: أمر الله تعالى الأرض أن تطوى وأن تقترب حتى - جاء في أحدى الروايات - أنه كان أقرب إلى الأرض الطيبة قدر شبر واحد، فألحقوه بأهلها.
وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.