[حديث أبي بن كعب في القدر]
قال: [عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر، فأتيت أبي بن كعب].
لما لمسألة القدر من أهمية عظيمة، إذ هي أعظم ما يمكن أن تتعامل معها، وهي السلاح التي تسلم به بين يدي الله عز وجل وتطمئن به في الدنيا، وهو أن تقول: آمنا وسلمنا وصدقنا، والخير والشر من عند الله عز وجل.
ولذلك حينما سئل أحمد عن القدر؟ قال: هو قدرة الله عز وجل.
واستدل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٠].
فحينما تسمع هذا التفسير، أو معتقد أحمد في القدر تقول: قد أجاب أحمد إجابة بعيدة جداً! فنحن نسأله عن معتقده في القدر وهو يقول: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٠].
إذاً: فنحن نعرف هذا، وإذا كنت تعرفه فهذا هو القدر.
[عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر، فأتيت أبي بن كعب فقلت: يا أبا المنذر -وهي كنية أُبي -: إنه وقع في نفسي شيء من القدر، وقد خشيت أن يكون فيه هلاك ديني أو أمري].
أي: أخاف أن يكون هذا الذي يدور في نفسي فيه هلاكي، [فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني].
أي: فأنقذني وعلمني.
[فقال] أي: أُبي نصاً رائعاً فيما يتعلق بالإيمان بالقدر، قال: [لو عذب الله أهل سماواته].
أي: من الملائكة، مع أنهم مجبولون ومفطورون على طاعة الله عز وجل.
[وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم]، وهذا هو معتقد أُبي، بل هو معتقد السلف.
وأنت سوف تقول في قوله: (لو عذب الملائكة): لماذا يعذبهم وهم أهل طاعة، ولا يمكن قط أن تصدر منهم معصية؟ سأقول لك: إن المصيبة هي فيما تقوله، إذ إن معتقدنا الصحيح من الملائكة: أنهم مجبولون على الطاعة، فإن نفسهم هو التسبيح والذكر والتهليل، وهم لا يملون ولا يفترون من طاعة الله عز وجل، والمعصية هذه لا تخطر لهم على بال نهائياً، والله تبارك وتعالى خلقهم من نور، ونزع منهم الشهوة، ولا شهوة لهم إلا شهوة حب الله، وشهوة الذكر والتسبيح والتهليل، والسجود والركوع لله عز وجل، فإذا عذبهم فإنه يعذبهم وهو غير ظالم لهم لأنهم عبيده.
وهنا لا بد أن نرجع إلى مسألة أخرى، وهي: هل يجوز أن ننسب الظلم لله عز وجل؟ ولو أنك نسبت الله تعالى إلى الظلم، أو نسبت الظلم إليه لكفرت.
وهذا محل اتفاق بين كل الناس، فننفي الظلم عن الله عز وجل أولاً، سواء عذب من شاء أو رحم من شاء، ولو عذب أهل السماوات وأهل الأرض فإنه لا يكون ظالماً؛ لأن الظلم صفة نقص لا تليق إلا بالعباد، بل ببعض العباد، وليس كل العباد ظالماً، وإنما كثرة من العباد ظالمة.
فإذا كان بعض العباد يتصف بالعدل والحكمة فرب العباد أولى بذلك، والله تبارك وتعالى قد سمى نفسه بأسماء الكمال كله، والنقص لا يُنسب إلى الله عز وجل، والظلم صفة نقص لا تليق إلا بالمخلوق، ومقابلها تمام العدل، وهو الذي يليق بالله عز وجل، فسواء عذب فلاناً أو رحم فلاناً، فلا ننسب إليه الظلم قط.
بل نقول: إن الله تعالى إذا عذب أهل السماوات وأهل الأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم.
أي: إنه عذبهم بعدله.
ونحن نعلم أن طاعة الطائع لا تنفع المولى عز وجل، كما أن معصية العاصي لا تضر الله عز وجل.
إذاً: فعذابه لذلك الظالم أو لذلك العاصي إنما هو يعدله سبحانه، وإنما هو جزاؤه عند ربه على معصيته التي عصى بها، لكن الله تبارك وتعالى عدلاً منه ورحمة وعد ألا يعذب إلا العاصي، بل مجمل العصاة يدخلون في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم.
قال: [ولو رحمهم -أي: أهل السماوات والأرض- كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم].
فلا يقولن أحد معكم: لا، فأنا أدخل الجنة بعملي! فقد أخرج الحاكم في مستدركه حديثاً لا بأس به، وهو حسن في الشواهد: (أن رجلاً عبد الله ستمائة سنة، فلما مات أوقفه الله عز وجل بين يديه، وقال: عبدي تدخل الجنة بعملك أم برحمتي؟ فقال: بل يا رب! بعملي -وهنا يظهر لنا مدى سعة رحمة الله عز وجل- فقال الله عز وجل: عبدي من قواك على طاعتي؟ -من الذي أعطاك الصحة التي عبدت بها؟ - قال: أنت يا رب!).
إذاً الأصل في الرحمة هو الله عز وجل، ثم عدد الله عز وجل عليه نعمه حتى بلغ إلى نعمة النظر، فأمر الله ملائكته أن يضعوا عبادة ستمائة سنة في كفة ونعمة النظر في كفة لوحدها، فطاشت بتلك العبادة، وثقل الميزان بنعمة النظر، مع أن الأعمى له أن يعبد الله تبارك وتعالى على تلك الحال، بخلاف المريض أو المكسر أو المكسح، فإنه لو نام في الفراش فربما لا يقدر أن يصلي، وكذلك لو ذهبت منه نعمة العقل فإنه لا يستطيع أن يأتي بطاعة لله عز وجل، وليس مكلفاً بطاعة؛ لأنه ليس من أهل التكليف.
وبعد أن رأى العبد أن عبادته لا تساوي نعمة واحدة، مع أن نعم الله لا تعد ولا تحصى.
قال الله عز وجل: أدخلوا عبدي