[قوله تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله)]
قال: [قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠] هذه أيضاً آية ترد على القدرية، ونحن قلنا في أول دروس القدر: إن القدرية نوعان: قدرية غلاة وهم الجهمية، وقدرية المثبتة.
النوع الأول: يقولون: إن العبد مجبور على عمله لا إرادة له، مسلوب الإرادة، لا علاقة له بعمله، ولذلك من الظلم أن يعاقبه الله عز وجل.
والرد عليهم: أن هذا الشيء قدره الله عليه، فهو شيء مكتوب عليه، ولكنه قد سبق في علم الله أن العبد سيختاره فكتبه سبحانه وتعالى له.
إذاً: العبد ليس مجبولاً على المعصية، ولكن علم الله عز وجل ذلك منه أزلاً بعد تيسير سبل الدعوة، وإقامة الحجة الشرعية، وبيان الحلال من الحرام، ولكن العبد في المقابل هو الذي اختار طريق المعصية، فلما كان منه ذلك كتبه الله عز وجل عليه، لأنه العليم سبحانه وتعالى.
فقوله هنا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠] رد على القدرية، وأن للعبد مشيئة.
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:٣٠].
يعني: لك مشيئة، ولك إرادة، ولكن إرادتك في علم الله ومشيئتك سبقت في علم الله، فقد علم الله ماذا سيكون عملك، وكيف تصير إليه؟ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ.
النوع الثاني من القدرية قالوا: لا علاقة لله عز وجل قط بأفعال العباد، والعبد له المشيئة المطلقة في إتيان الهدى وإتيان الضلال.
فالقدرية ضد بعضهم البعض، فطائفة تقول: العبد مسلوب الإرادة، وطائفة تقول: لا مشيئة لله عز وجل ولا إرادة له في أفعال العباد، وأن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، وهو الذي يوجد فعل نفسه، وكلاهما على ضلال بين.
فهذه الآية ترد على هاتين الفرقتين بإثبات الإرادة والمشيئة للعبد، وربط هذه المشيئة بعلم الله عز وجل الأزلي الأولي.
قال: [عن زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله عز وجل، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس].
يعني: القدرية قد أتوا بالبدع التي لم يأت بها حتى إبليس، فما وجه مخالفتهم لله؟ وما وجه مخالفتهم للملائكة ولأهل الجنة والنار؟ [قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:٣٠]] فهذه الآية ترد على القدرية بنوعيها، وذلك بإثبات المشيئة للعبد، وربط هذه المشيئة بعلم الله عز وجل الأزلي.
[وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:٣٢].
إذاً: الله تعالى هو الذي علم الملائكة قبل أن تعلم، والملائكة خلقهم الله عز وجل لا علم لهم ثم علمهم، ولا يتصور أن الله تعالى علمهم ما لا علم له به أصلاً، فهو العليم الخبير, تعلم ملائكته من علمه، وهو الذي علمهم من علمه.
والقدرية يقولون: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء حتى تقع، وهذا في قولهم: أنه لا قدر وأن الأمر أنف.
يعني: أن الله لا يعلم الشيء حتى يكون.
إذاً: هذه الآية فيها إثبات العلم لله عز وجل، فربنا علم الملائكة أسماء كل شيء، وأمر الملائكة أن تعلم آدم الأسماء، والله تعالى علم الأشياء بأسمائها وأفعالها وأقوالها وحركاتها وسكناتها وشقائها وسعادتها، علم ذلك كله أزلاً قبل أن يخلق الخلق فكتبه في اللوح المحفوظ، فالله تعالى يعلم ما العباد عاملون وكيف يصيرون إليه.
قال: [وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:٨٩].
فأثبت المشيئة الأزلية لله عز وجل، وأنه إذا سبق في علمه الشقاء أجراه، وإذا سبق في علمه الهدى أجراه ويسره.
[وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا} [الأعراف:٤٣]] فالهداية بيد الله عز وجل، ومعنى ذلك أنه سبق في علمه أن أهل الجنة سيختارون الطاعة فيسرهم لها ومهد لهم السبيل إلى الجنة.
[{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:٤٣]].
فأثبت أهل الجنة أن الهداية بيد الله عز وجل.
[وقال أهل النار: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:١٠٦]].
يعني قد اخترنا الشقاء وغلب علينا؛ لأن الله تعالى علم أزلاً أننا سنختار الشقاء فكتبه، وما يكتبه الله عز وجل لابد أن يغلب، لأنه الغالب على أمره.
[وقال أخوهم إبليس: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:٣٩]] يعني: رب بما أضللتني.
فإبليس يعلم أن السعادة والشقاء، والهداية والإضلال بيد الله عز وجل فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:٣٩].
قال الشافعي لما رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه: [لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله عز وجل خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء] يعني: من أهواء الفرق