للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ضوابط الاحتجاج بالقدر على المعاصي، والفرق بين القدر الكوني والقدر الشرعي]

أهل العلم لهم ضوابط في الاحتجاج بالقدر على المعاصي، ويفرقون بين القدر الكوني والقدر الشرعي، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية، أما ظاهر النص هنا فإنه يدل على أن آدم احتج بقدر الله على ما وقع منه وهو معصية، مع إجماع أهل العلم على أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية.

فنقول: الفرق بين موقف آدم وإجماع أهل العلم وما أتى به جميع الأنبياء والمرسلين: أن آدم تاب وأناب إلى ربه، وهذا بخلاف الرجل الذي سرق في عهد عمر، فجيء به بين يديه فأمر بإقامة الحد عليه، فقال: يا عمر! أتريد أن تجلدني على أمر قدره الله علي؟ انظر بجاحته وجرأته وكأنه لم يعمل شيئاً.

فقال عمر: نعم.

إن الذي قدر عليك هذا قد فرض عليك الحد، وهو من قدر الله عز وجل.

فأنت حينما تقع في الذنب، فتعتصر هماً وغماً وألماً، وتتوب وترجع إلى الله تبارك وتعالى، وتعزم على ألا تعود لمثل هذا الذنب، فهذا أمر مقبول، فما من نبي يقع في ذنب أو هفوة من الهفوات الصغيرة إلا وقد استغفر ربه وأناب ورجع، فما وقع فيه الأنبياء والمرسلون من هذه الهفوات اليسيرة الصغيرة التي لا تخدش في رسالتهم ولا في إيمانهم كان ذلك بتقدير من الله تعالى مع أنه معصية، ولكن الفرق بين الاثنين: أن هذا يحتج بقدر الله السابق على معصيته بجرأة وبجاحة وسفالة ووقاحة، وهذا يحتج بقدر الله السابق؛ لأنه يعلم ويعتقد بعد توبته أن الذي بدر منه ما بدر إلا بعلم الله عز وجل وأن الله لما علمه كتبه، فهم لا يحتجون بالقدر، وإنما يعتقدون أن الله قد علم ذلك سلفاً وأولاً، فلما علمه كتبه.

وأنتم تعلمون أن أولى مراتب القدر: العلم الصادق الأزلي لله تبارك وتعالى، ثم الكتابة، وهو أن الله تبارك وتعالى علم كل شيء كان وسيكون إلى يوم القيامة، فكتب ذلك في كتاب، فهو محفوظ عنده تحت العرش.

والمرتبة الثالثة من مراتب القدر: المشيئة، والمشيئة نوعان: مشيئة شرعية دينية، ومشيئة قدرية كونية، فالمشيئة الشرعية الدينية مبناها على محبة الله تعالى ورضاه، وهي طاعته التي أمر بها ونهيه الذي نهى عنه، فطالما التزم المرء أمره وانتهى عن نهيه نقول: إنه دخل في مشيئة الله الشرعية الدينية، بمعنى: أنه أطاع الله فيما أمر وانتهى عما نهى، وما أطاع ذلك الرجل ما أمره الله ورسوله وما انتهى عما نهاه الله ورسوله إلا بحب الله وتوفيق الله وتقدير الله له، والله تبارك وتعالى في المقابل علم أن هذا العبد سيزني ويسرق ويقتل ويشرب الخمر وغير ذلك، فكتبه عليه وقدره عليه، ومعنى: قدره عليه أنه أذن في وقوعه؛ لأن الله تبارك وتعالى قال لهذا العبد: لا تشرب الخمر، فإن فيها كيت وكيت، ولا تطع الشيطان لأنه لا يدل على خير، ولا تقتل ولا تسرق ولا تزنِ ولا تعمل كيت ولا كيت ولا كيت، ولكن العبد خالف ذلك فوقع في هذا المحذور، فوقوعه في هذا المحذور الله تبارك وتعالى علمه أولاً فكتبه، وليس معنى كتبه: أنه جبره على أن يفعله، ولو قلت ذلك لقلت بقول الجبرية، فلو قلت: إن هذه المعاصي المرء مجبور على فعلها فستكون من الجبرية، وتكون من القدرية في وقت واحد.

ولكن لابد أن تعلم أن الله تعالى كتب المعاصي على عباده بمعنى: أنه علم أن العبد سيختار المعصية، فلما علم ذلك سلفاً كتبها عليه، فمثلاً: كتب أن أحمد سيفعل كذا، سيقتل، سيسرق، وأحمد يعلم أن هذه سرقة، ويعلم أن الله تعالى حرمها، وأنه لو أطاع لدخل في المشيئة الشرعية الدينية التي مبناها على محبة الله ورضاه، ولو خالف لدخل في مشيئة الله الأخرى، وهي أن الله تعالى لا يقع شيء في كونه إلا بإرادته وإذنه.

تصور لو أن عبداً أراد أن يسرق الآن، فلابد أن السرقة تستلزم مجموعة من الأفعال: المشي والهم بالسرقة، وتحديد ذلك، ومد اليد على المسروق، ثم أخذه وتحريزه والجري به، أليس كل هذا مخلوقاً لله عز وجل؟ هل يستطيع العبد أن يفعل ذلك بغير إرادة الله؟ هل يمكن أن يقع شيء في الكون بغير إذن الله؟ أنا أود أن أسرق هذا الشيء وأخرج جرياً، فمن الذي قواني على الجري؟ ومن الذي منحني القدرة والقوة على أن أخطف هذا الميكرفون؟ إنه الله تبارك وتعالى الذي خلق كل ذلك، فهذا تم بتقدير الله ليعاقبني الله تبارك وتعالى عليه بعد ذلك؛ لأنه أمرني ألا أفعل هذا، بل أفعل غيره، فإذا رأيت من يسرق نهيته عن ذلك وأمرته بطاعة الله عز وجل، فلما خالفت ذلك وذاك فإننا نقول: إن هذا كله وقع بتقدير الله، لكن ليس بتقدير الله الشرعي؛ لأن الله تعالى يكره ذلك، يكره السرقة وحذر منها، كما أن الله تبارك وتعالى لا يرضى لعباده الكفر، ومع هذا هو الذي أذن بوجود الكفر إذناً قدرياً، فكفر الكافر وقع في الأرض بإذن من الله، ولو أن الله تبارك وتعالى شاء أن يجعل الناس أمة واحدة مؤمنة لجعلهم مؤمنين جميعاً، ولو شاء أن يجعلهم جميعاً كفاراً لجعلهم كذلك، ولكن حكمة الباري اقتضت وجود الإيمان والكفر، وجود الخير والشر، وجود المعاصي والطاعات، وجود الجنة والنار في المقابل، وبين الله تبارك وتعالى في كتابه البيان الشرعي ال