[مناظرة بين عبد الرحمن بن مهدي وأحد المشبهة]
قال: [قال عبد الرحمن بن مهدي لفتى من ولد جعفر بن سليمان: مكانك، فقعد حتى تفرق الناس]، وعبد الرحمن بن مهدي إمام من أئمة السلف، وصاحب سنة وهدي، وهو شيخ الإمام أحمد بن حنبل، ومنه تعلم السنة، والاعتقاد الصحيح، وكانت الحلقة تجتمع لـ ابن مهدي بما يتجاوز المائة ألف، فيعلمهم السنة والحديث والفقه، فلما أراد القوم أن ينصرفوا بعد فراغ ابن مهدي من المجلس أشار إلى فتى من ولد جعفر بن سليمان الأمير، فقال: مكانك لا تنصرف وأمر الناس بالانصراف.
[ثم قال: تعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف -يعني: أتعرف ما في هذا البلد وهو بغداد من الأهواء والاختلاف والاضطراب في العقيدة؟ - وكل ذلك يجري مني على بال] يعني: هذه الاختلافات والأهواء المضلة أنا عندي بها خبر، ولست غافلاً عنها.
قال: [وكل ذلك يجري مني على بال رضي إلا أمرك وما بلغني] يعني: إلا أمرك لم يخف علي, وأن هذه الأهواء وهذه الفتن المضلة وإن كانت فتناً إلا أنها أقل خطراً من الذي بلغني عنك، وكأنه قد أتى ببدعة جديدة لا عهد ولا قبل لأهل الإسلام بها.
قال: [فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصر إليكم] أي: ما لم يصل إليكم يا معشر السلاطين.
[فإذا صار إليكم جل وعظم] يعني: أما الفتن والاختلافات بين عامة الناس فيمكن حلها بالمناظرات والمجادلات وإقامة الحجج والبراهين، وأما إذا تبنى السلطان مذهباً فاسداً فسرعان ما ينتشر ويجد له ظهراً قوياً يحميه، كما كان في الدولة العباسية من تبنيهم المذهب الاعتزالي، فأوذي السلف إيذاءً عظيماً جداً بسبب أن أئمة العباسيين وسلاطينهم قد تبنوا الاعتزال، فلهم ظهر يحميهم، ولهم صولة ونجدة.
وأما إذا كان الأمر لا يعني السلطان من قريب ولا من بعيد ولا يتبناه فإن الأمر يهون.
قال: [فقال: يا أبا سعيد] وهي كنية عبد الرحمن بن مهدي.
قال: [وما ذاك؟] أي: وما هذا الذي بلغك عني؟ قال: [بلغني أنك تتكلم في الرب تبارك وتعالى وتصفه وتشبهه، فقال الغلام: نعم] كأنه أراد أن يقول: وما الغضاضة؟ وماذا تنكر علي؟ قال: [فأخذ يتكلم في الصفة] انتقى صفة من صفات الله عز وجل وأخذ يتكلم عنها مع الإمام.
[فقال: رويدك يا بني] أي: على مهلك.
قال: [حتى نتكلم أول شيء في المخلوق] يعني: قبل أن نتكلم في صفات الخالق نتكلم في صفات المخلوق.
قال: [فإذا عجزنا عن المخلوقات فنحن عن الخالق أعجز وأعجز، أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة عن أبي إسحاق الشيباني قال: سمعت زراً - وهو ابن حبيش - قال: قال عبد الله - وهو ابن مسعود - في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:١٨]] كأنه أراد أن يقول له: ماذا تقول في تأويل هذه الآية؟ [قال: رأى جبريل له ستمائة جناح، قال: نعم] يعني: ابن مهدي يقره على هذا الفهم لهذه الآية.
[فعرف الحديث، فقال عبد الرحمن: صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح] أي: صف لي جبريل.
قال: [فلما عجز بقي الغلام ينظر إليه، فقال عبد الرحمن: يا بني! فإني أهون عليك المسألة، وأضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين] أي: جناحاً.
[صف لي خلقاً بثلاثة أجنحة، ركب الجناح الثالث منه موضعاً غير الموضعين اللذين ركبهما الله تعالى حتى نعلم] أي: لا تقل له جناح في اليمين وجناح في الشمال، بل ضع الجناح الثالث في المكان الذي ركبه الله عز وجل فيه، فعجز الغلام.
قال: [فقال: يا أبا سعيد! نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق، ونحن عن صفة الخالق أعجز وأعجز]، وهذا لمن وفق وهدي [وأشهدك إني قد رجعت عن ذلك، وأستغفر الله].
ومن هذا يتبين: أن وجود أهل العلم من أهل السنة والجماعة في بقعة، أو في كورة من الكور، أو بلدة من البلدان؛ أعز وأكرم على الله عز وجل وعلى أهل القرية من عين تنبع لهم بالماء؛ لأن غذاء القلوب والأبدان والعقول والأفكار أعظم من غذاء الأبدان، فالبدن إذا فسد مع صلاح القلب كان مآله عند الله خيراً، وإذا فسد القلب مع صلاح البدن فقد شبه الله تبارك وتعالى هؤلاء بما شبه به الكافرين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:٤] أي: لا قيمة لهم مع صلاح أبدانهم، ولذلك يقول عبد الله بن المعتز رحمه الله: العالم في البلد كالعين تنبع بالماء، وهو أعز وأكرم؛ لأن العين تغذي الأبدان، والعالم يغذي القلوب والأرواح.
فعالم واحد يهدي الله عز وجل به أمة من الأمم، ويرفع به أمة من الأمم، كما أن عالماً واحداً فاسداً تزل به أمة بأسرها إذا انحرف عن الصراط.