[الوجه الثالث: أن ذلك يقتضي الاعتقاد بأن الموتى قادرون على إجابة مسائلهم وقضاء حوائجهم]
الوجه الثالث في خطورة اعتقاد أن الموتى يسمعون: اعتقاد أن الأنبياء والصالحين قادرون على إجابتهم وإلا كان دعاؤهم ومناداتهم بذلك سخفاً جلياً، وضلالاً بيناً، وهذا مما يترفع عنه العاقل، بل المؤمن؛ لأنه باطل بداءة وفطرة؛ ولذلك احتج الله على المشركين في مواطن كثيرة من القرآن، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ} [الأعراف:١٩٤]، فهذا ليس فعل أمر يدل على الوجوب، بل توبيخ وتقريع.
قال: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:١٩٤ - ١٩٥] إنكار؛ ولذلك كانت حجة إبراهيم على أبيه وقومه كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:٤٢].
فإن قيل إن أبا إبراهيم كان يعبد صنماً وهذه الآية في الأصنام لا في الأموات.
نقول: لا فارق بين الميت والصنم بجامع أن كلاً منهما لا يسمع، وأنه لا يجوز دعاء أحد إلا من يسمع.
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:١٩٥]، وقول إبراهيم: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:٧٢ - ٧٣]، هذا يدل على أن هذه مؤهلات من يجوز دعاؤه.
يعني: لا بد أنه يسمع ويبصر ويرى ويملك النفع والضر وغير ذلك، أما كون هؤلاء الموتى أو هؤلاء الأصنام لا يملكون شيئاً من ذلك فهذا يدل على تحريم دعائهم والاستغاثة بهم والنذر لهم والذبح لهم وغير ذلك من سائر العبادات.
إذا عرفت هذا فتنبه أيها المسلم المبتلى بدعاء الأولياء والصالحين من دون الله تعالى، هل أنت تعتقد أنهم حين تناديهم لا يسمعونك؟ إذاً: فأنت مع مخالفتك للعقل والفطرة مثل أولئك المشركين من قوم إبراهيم وغيرهم ولا فرق، فلا ينفعك والحالة هذه ما تدعيه من إسلام أو إيمان؛ لأنك حينئذ مشرك؛ لأنك قد صرفت ما يجب لله إلى غير الله؛ ولأن الله تعالى يقول في القرآن: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:٦٥].
وإن كنت تزعم أنهم يسمعونك ولذلك تناديهم وتستغيث بهم وتطلب منهم فهي ضلالة أخرى فقت بها المشركين، وإني لأعيذك بالله أن تكون منهم في شيء.
فاعلم أخي المسلم! أن كل ما أعطاه الله تعالى للبشر وفيهم الأنبياء والأولياء من قدرات وصفات يذهب بالموت، كالسمع والبصر والبطش والمشي ونحو ذلك، فما يبقى منها شيء كما هو مشاهد، اللهم إلا الروح باتفاق المسلمين.
فالذي أريد أن أجمله في هذه اللحظات أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون إلا ما ورد الدليل أنهم يسمعون في لحظات وأوقات معينة وأشخاص معينين، أما الأشخاص فهم أهل القليب من باب إثبات المعجزة للنبي عليه الصلاة والسلام، والتقريع والتصغير لهؤلاء على جهة الخصوص، وفي هذا التوقيت بالذات.
أما ما دون هؤلاء فإنهم يسمعون خفق النعال فقط، ولا بد أن تعتقد أن الميت إنما ينتفع بعمل الحي من الدعاء له والاستغفار والسلام والصدقة والحج والصيام عنه وغير ذلك، ينتفعون بذلك انتفاعاً لا يستلزم سماعهم له، والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك ينتفع بسلام الناس عليه وصلاتهم عليه، ولا يلزم من ذلك أنه يسمعهم، أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام) فهذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.