للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خطأ ابن الجوزي في نقله قول الجمهور في صفة الساق لله تعالى]

أما ما نقله ابن الجوزي عن جمهور العلماء من أنهم قالوا في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:٤٢]، أي: يكشف عن شدة، فقول غير صحيح، ومن قرأ الكتب المصنفة في السنة علم خطأ هذا القول وبطلانه؛ فهذا أحمد بن حنبل، وابن خزيمة، وابن منده، والدارمي، وغيرهم كثير جداً قد صنفوا في الاعتقاد، وما رأينا في كتب الاعتقاد المصنفة عند أهل السنة والجماعة أنهم أولوا الساق بالشدة، ولم نجد من هؤلاء من يقوله، وهذا القائل إما أنه لا يعرف من هم السلف، وإما أنه أطلق هذا القول جزافاً دون تحقيق، ولو فرضنا صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور فإنه لا يدل على صحة قولهم وبطلان ما عداه؛ لأنه ليس دائماً الحق مع الجمهور، إذ إن كل مسألة من مسائل الدين، سواء في باب الأصول أو الفروع لا نبحث فيها عن رأي الجمهور؛ لأنه ليس ذلك بلازم، والجمهور في أكثر من مسألة قد خالفوا فيها الدليل، لكن الأمة في مجموعها معصومة، بمعنى: أن الحق لا يخفى على مجموعها في زمن ولا في بلد، وإنما الحق لابد أنه يكون ظاهراً في كل زمان وفي كل مكان، حتى وإن ظهر لواحد من الأمة فقط، مثلاً: عندما نأتي إلى قرية (الطالبية) ونذكر مسألة من المسائل فماذا سنقول؟ هل سنقول: إن هذه المسألة قد خفيت على أهل الطالبية بأسرهم؟ لا؛ لأن هذا يخالف سنة الله تبارك وتعالى، ولأنك لو قلت: إن الحق قد خفي على مجموعة من الناس في مكان أو في زمان، فلابد وأن تعتقد حينئذ أن حجة الله تبارك وتعالى تخفى عن عباده وعن خلقه في أي وقت أو في أي مكان، وهذا بخلاف عقيدة المسلمين، بل الحجة تقوم على المسلمين ولو بواحد، ولا يمكن أن يخفى الحق على مجموع الأمة، لا في زمن ولا في مكان، ولذلك لما وقع هذا الخلاف بين ابن عباس وبين الصحابة رضي الله عنهم خالفه ابن مسعود.

بل صح السند لـ ابن مسعود في المخالفة، ولم يصح إثبات التأويل عن ابن عباس كما ذكرنا، فنقول في هذه الحالة: على فرض صحة ما ادعى ابن الجوزي من أن مذهب الجمهور هو التأويل، فهل يلزمنا أن نقبل مذهب الجمهور هنا؟ لا.

لأنه قد يكون لشخص من الأشخاص قول لا نعلم له مخالفاً فيكون إجماعاً، ولو علمنا له مخالف لا أقل من أن نقول: إن هذه المسألة قد اختلف فيها الصحابة، وممكن أن يشتهر قول أحد الأصحاب ولا يشتهر القول الثاني، فيأتي بعد ذلك المقلدة فتجدهم يقلدون القول ويلتزمونه نقلاً من الكتب أو سماعاً من المشايخ دون تحقيق لهذا القول، وسائر القول على هذا النحو، من أجل ذلك أنا أحكي لك عن مسألة قال بها ألف واحد من العلماء، لكن هذا الألف بلا تحقيق لا قيمة له، إنما القيمة في التحقيق، وأقول: التحقيق دائماً؛ لأنه عندما يكون هناك مسألة هي محل نزاع بين أهل العلم، فإنهم يعرضونها على المشرحة، وهذه المشرحة هي مشرحة الكتاب والسنة، الميزان الأعظم، هذا الميزان الذي لا يمكن أبداً أن يهتز؛ لأنه الميزان الذي أزن به الأعمال والأقوال، صحيحة أو غير صحيحة، مقبولة أو غير مقبولة، وعليه فمذهب الجمهور على نقل ابن الجوزي -إن صح أن الجمهور قالوا بذلك- مردود ليس عليه دليل، وهم -إن صح ذلك عنهم- نفوا والنافي لا يطالب بالدليل في النقاش العلمي، فالذي ينفي الشيء لا يطالب بالدليل، وبالتالي فالذي يطالب بالدليل هو الذي يثبت؛ لأن معه من العلم والحجة ما ليس عند النافي، وفي هذه الحالة فمسألة الساق اختلف فيها أهل العلم، فجمهورهم ينفيها، وبعضهم يثبتها، فهل تتصور عقلاً أن آتي إلى النافي وأقول له: ما دليلك على نفي الساق؟ سيقول: الأصل عدم إثبات ما نفاه الله عن نفسه، أو لا أثبت لله إلا ما أثبته لنفسه ولم يثبت لنفسه ساقاً.

فسأقول له: إن هذا الفريق الثاني المناهض والمناقض يقول: أن هناك ساقاً، فسيقول: ليأتينا بالدليل، فأقول: الدليل: حديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد، وحديث عبد الله بن مسعود، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

وعليه؛ فإذا كانت الآية مطلقة وعامة فلابد من حملها على الحديث المقيد، وأن هذه الساق التي وردت منكرة غير مضافة إلى الله عز وجل قد وردت في الحديث مضافة وثابتة، وصريحة في إثباتها الساق لله عز وجل.

وفي هذه الحالة سأقول له: أنت أيها الجمهور! قد خالفك رجل واحد في الأمة، والدليل معه، فضلاً أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن مسعود، أو هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي أثبت، وإذا كنا نعتقد أنه أعلم الخلق بالله عز وجل فلابد وأننا نقول: بأن حديثه مقدم على مذهب الجمهور.

ثم لو افترضنا مثلاً صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور، فلا يدل ذلك على صحة قولهم وبطلان ما عداه، إذ ليس كل قول يذهب إليه الجمهور يكون صواباً، فإن الحق لا يعرف بالكثرة، وإنما يعرف