[ذكر معتقد السلف في علم الله تعالى ومن خالفهم في ذلك]
المرتبة الأولى: وهي مرتبة العلم، أن الله تعالى علم كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض، فعلمه أزلي لا أول له، والعلم صفة من صفات الله عز وجل، وهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، فإن الله تعالى لا يقاس عليه أحد من خلقه، فنحن لا نعلم إلا ما هو مشاهد، وربما نشاهد الشيء ولا نعلمه، ولكن الله تعالى يستوي عنده العلمان، فهو عالم الغيب كما هو عالم للشهادة، فالكل مشاهد وحاضر بين يدي الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن يكفر الصحابة رضي الله عنهم من أنكر علم الله تعالى السابق الأزلي.
ولذلك ورد في صحيح مسلم في أول كتاب الإيمان: أن يحيى بن يعمر، وحميد بن عبد الرحمن أتيا إلى مكة حاجين أو معتمرين، فقالا: لعلنا نوفق إلى أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقالا: ليتنا نرى ابن عمر أو أبا سعيد الخدري، فوفقا لـ عبد الله بن عمر وهو يطوف حول الكعبة، فقال حميد: فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره، فقلت: لعله يكل الكلام إلي -يعني: لعله يفوضني في الحديث معه- فقلت: يا أبا عبد الرحمن! قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتكلمون في القدر، ويقولون: إن الأمر أنف -ومعنى أنف: أن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، فنفوا عن الله تبارك وتعالى علمه السابق بأفعال العباد، وما هم عاملون ومكتسبون- وإنهم يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم -يعني: يطلبون دقائقه، وهم مستمرون في قراءة القرآن وتلاوته- قال عبد الله بن عمر: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني.
جمهور أهل العلم: على أن مراد عبد الله بن عمر بهذا هو تكفيرهم، ثم انعقد اجتماع أهل السنة والجماعة على أن منكر علم الله تعالى الأزلي كافر.
وانتقلوا بعد ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وكان إماماً من أئمة البصرة، فلما بلغه مقولة معبد، أي: معبد الجهني تلميذ سوسن النصراني، الذي أسلم ثم تنصر مرة أخرى، وهو أول من نفى القدر وتكلم فيه، وأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ عن معبد الجهم بن صفوان.
فقال حميد لـ ابن عباس: إن بالبصرة أناساً يقولون: لا قدر، وإن الأمر أنف.
قال: أوقد فعلوها؟ وكأن ابن عباس عنده علم سابق من النبي عليه الصلاة والسلام أن الأمة سيظهر فيها من يقول بهذا، ولكنه تعجب من سرعة ظهور هؤلاء.
وكل بدعة حدثت في الإسلام إنما مردها إلى نحلة باطلة، أو مردها إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية، فالقول بالقدر بدعة نصرانية في أصلها؛ لأن القدر ما انتشر في الإسلام إلا على يد معبد تلميذ سوسن النصراني الذي أسلم نفاقاً ثم ارتد إلى النصرانية مرة أخرى.
والقول بالقدر ظهر على وجه التقريب سنة أربع وستين هجرية على لسان معبد الجهني، وظهر في البصرة، بل إن معظم البلايا والفتن التي حدثت في الإسلام كان مردها إلى البصرة وإلى الكوفة، فالعراق معروفة منذ فجر الإسلام -بل وقبل الإسلام- بأنها بلاد الفتن، ومنها تطل برأسها.