[شرح تفسير مقاتل لقوله تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم)]
قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:٧]، يعني: لو تناجى ثلاثة أو أربعة أو خمسة؛ إلا كان الله تعالى معهم أينما كانوا، حتى وإن أخفوا كلامهم.
أتت امرأة تشتكي زوجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة الظهار، تقول عائشة: فدخلت المرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، وكنت في زاوية منها، والمرأة تجادل النبي عليه الصلاة والسلام في أمر زوجها الذي قال: أنت علي كظهر أمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتظري حتى يأتينا الوحي).
فانتظرت المرأة فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام بقوله تبارك وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:١]، تقول عائشة لما نزلت هذه الآية: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات! مع أنها نجوى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين تلك المرأة إلا أن الله سمع ذلك؛ ولذا قالت عائشة للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! ما من شيء صغير ولا كبير، غيب ولا شهادة إلا الله يعلمه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم).
فالله تبارك وتعالى مستو بذاته على عرشه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:٤] بسمعه وعلمه وإحاطته وبصره ورعايته وغير ذلك من بقية صفات المولى تبارك وتعالى اللازمة لعلمه وسمعه وبصره وإحاطته بالخلق.
قال مقاتل في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:٧]، قال: هو على العرش ولن يخلو شيء من علمه.
قوله: (هو على العرش) أي: بذاته، وكلمة (بذاته) لم يتعرض السلف لها ولم يذكروها؛ لأنها معلومة لديهم، فلم يذكروها إلا بعد أن تكلم الخلف المبتدعون في الذات الإلهية، وقالوا: إن الله تعالى مع كل خلقه بذاته.
يعني: لو أنا دخلت الحمام، أو دخلت الحوش، أو دخلت الأماكن النجسة فإن ذات الله تبارك وتعالى موجودة معي في هذه الأماكن القذرة والنجسة؟! تنزه الله عن ذلك! فالصحيح: أنني لو صنعت في الحمام صنيعاً أحاسب عليه، فإن الله يعلمه ويراه ويسمعه.
إذاً: الله تعالى مع خلقه بعلمه وسمعه، أما ذاته العلية فإن الله تبارك وتعالى قد استوى على عرشه، وقد تحرج السلف من كلمة الذات؛ لأنها لم تكن على لسان النبي عليه الصلاة والسلام ولا على لسان أصحابه، فلم يذكروها، والسلف كانوا يتحرجون أشد الحرج من الحق ما لم يتكلم به من قبلهم.
وكلمة الذات حق، ولكن لكونها لم ترد عن السلف؛ فإنهم تورعوا عن ذكرها، مثال ذلك: في قصة خلق القرآن، فإن السلف يقولون: القرآن كلام الله، ولم يقولوا يوماً: مخلوق ولا غير مخلوق؛ لاعتقادهم أنه غير مخلوق، لكن لا يلزم بهذا المعتقد التصريح به، ولما وقع المعتزلة فيما وقعوا وقالوا: هو مخلوق؛ اضطر أحمد بن حنبل ومن معه أن يقولوا: هو غير مخلوق، فكلمة (غير مخلوق) هذه تحرج بعض السلف من ذكرها ونطقها وإطلاقها؛ لأنها لم تأت على لسان الصحابة والتابعين.
لكن في مقابلة أهل البدع وذكرهم لهذا صراحة صرح السلف رضي الله تعالى عنهم بأقوال يكرهونها، لا لأنها الحق، وإنما لأنها لم ترد على لسان السلف، فكذلك لم نجد واحداً من الصحابة يقول: استوى الرحمن على العرش بذاته، وإنما هو علم من نفسه وآمن وصدق بأن الرحمن استوى على العرش، أما كلمة (بغير ذاته) فلم يخض فيها السلف، وإنما خاض فيها الخلف، إذ قالوا: الله معنا في كل مكان بذاته، فالسلف اضطروا إلى التصريح، قالوا: أنتم تقولون: الله معنا بذاته، ولو كان الصحابة يقولون ذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يقوله؛ فهذا أمر آخر، أما أن تقولوا شيئاً لم يقله الصحابة: إنه معنا بذاته، فالله تعالى عن ذلك، ونحن سنتعرض للذات، ونقول: إن الذات العلية في السماء على العرش، وأما المعية لله عز وجل فإنها معية علم وسمع.
ولذلك قال: هو على العرش، ولن يخلو شيء من علمه، ولم يقل: من ذاته، يعني: هو على العرش بذاته، وليس شيء يخلو من علمه، يعني: هو معنا بعلمه، وأما ذاته العلية فهي فوق العرش.