ولمَّا كان ذلك .. هاب قومٌ من السلف الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كعُمَرَ والزُّبيرِ بنِ العَوَّام وأنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنهم أجمعين؛ فإِنَّ هؤلاء سمعوا كثيرًا وَحَدَّثُوا قليلًا، كما قد صَرَّحَ الزُّبَيرُ رضي الله عنه بذلك لَمَّا قال له ابنُه عبدُ اللهِ رضي الله عنه: إِني لا أسمعك تُحَدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحَدِّثُ فلانٌ وفلانٌ؟ ! فقال: أَمَا إِني لم كن أُفارقه، ولكنِّي سمعتُه يقول: (مَنْ كَذَبَ عليَّ .. فليتبوأْ مقعدَه من النار"، وقال أنسٌ: إِنه يمنعني أنْ أُحَدِّثَكم حديثًا كثيرًا أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ كَذَبَ عليَّ ... " الحديث.
ومنهم مَنْ سَمِعَ وسَكَتَ كعبد الملك بن إِياس، وكأَنَّ هؤلاءِ تَخَوَّفُوا من إِكثار الحديث الوقوعَ في الكَذِبِ والغلطِ فقَلَّلُوا أو سَكَتُوا، غيرَ أَنَّ الجمهورَ خَصَّصُوا عمومَ هذا الحديث، وقَيَّدُوا مُطْلَقَه بالأحاديث التي ذُكِرَ فيها "مُتَعَمِّدًا"؛ فإِنه يُفْهَمُ منها أَنَّ ذلك الوعيدَ الشديدَ إِنما يَتَوَجَّهُ لِمَنْ تَعَمَّدَ الكَذِبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الطريقةُ هي المرضيّة؛ فإِنها تَجْمَعُ بين مختلفات الأحاديث، إِذْ هي تخصيصُ العموم، وحَمْلُ المُطْلَقِ على المقيِّد مع اتحاد الموجِب والموجَب كما قَرَّرْناه في الأصول، هذا مع أَنَّ القاعدةَ الشرعيةَ القطعيةَ تقتضي: أَنَّ المخطئَ والناسِيَ غيرُ آثمَينِ ولا مؤاخذَينِ، لاسِيَّما بعد التحرُّز والحَذَر) (١).
وفي هذين السندَينِ من اللطائف:
في الأول منهما: روايةُ كوفي عن بصري عن بصري عن كوفي عن كوفي.
وفي الثاني: روايةُ بَصْرِيَّينِ عن بصري عن بصري عن كوفي عن كوفي.
ففي الأول ثلاثة من الكوفيين واثنان من البصريين، وفي الثاني أربعة من البصريين واثنان من الكوفيين.
ثم استشهد لحديث عليٍّ بحديث أنسٍ رضي الله عنهما فقال:
[٣](٢)(وحَدَّثَنِي زُهَيرُ بن حَرْبِ) بن شَدَّاد الحَرَشِيّ -بفتح المهملتين بعدهما معجمة- مولاهم، أبو خيثمة النسائي الحافظُ نزيلُ بغداد.