ولا رَيبَ أَن الأَخْذَ من الصُّحُف وبالإِجازة يَقَعُ فيه خَلَلٌ، ولاسِيَّما في ذلك العصر، حيثُ لم يكن بعدُ نَقْطٌ ولا شَكْلٌ، فتَتَصَحَّفُ الكلمةُ بما يُحيل المعنى، ولا يَقَعُ مثلُ ذلك في الأَخْذِ من أفواهِ الرجال، وكذلك التحديثُ من الحفظ يَقَعُ فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتابٍ مُحَرَّر). وقد عَقَدَ الخطيبُ البغداديُّ في كتاب "الفقيه والمتفقّه" (٢/ ١٩٣) بابًا في اختيارِ الفقهاء الذين يُتعلَّم منهم، وذكر فيه أنه ينبغي للمُتعلِّم أن يكون قد أَخَذَ فِقْهَهُ من أفواهِ العُلماء لا مِنَ الصُّحُف، ثم ذكر الأخبار الواردة في التحذيرِ من الأَخذِ عن الصُّحُف وتَرْكِ التلقي بالمشافهة، فمنها: عن سُليمان بن موسى قال: (لا تقرؤوا القرآن على المصحّفين، ولا تأخذوا العِلْمَ من الصَّحَفيين). وعن ثَوْر بن يَزِيد قال: (لا يُفتي الناسَ الصَّحَفِيُّون). وقال أبو زُرْعة: (لا يُفتي الناسَ صَحَفِيٌّ، ولا يُقْرِئُهم مصحفي). وفي هذا المعنى نَظَمَ الحافظُ محمد بن محمد بن حسن التميمي الداري الشُّمُنّي المتوفى سنة (٨٢١) بيتَين لطيفَين، أوردهما الحافظُ السخاويُّ في "الضوء اللامع" (٩/ ٧٥) في ترجمته، وهما: مَنْ يَأخُذِ العِلْمَ عن شيخ مُشَافَهةً ... يَكُنْ من الزَّيفِ والتصحيفِ في حَرَمِ ومَنْ يَكُنْ آخِذًا للعِلْمِ من صُحُفٍ ... فعِلْمُهُ عندَ أهلِ العِلْمِ كالعَدَمِ (١) يعني: ثِقَةً ضابطًا مُتْقنًا يُوثَق بدينهِ ومعرفتهِ، ويُعْتَمَدُ عليه كما يُعتمد على معاملة المَلِيّ بالمال ثقةً بذمّته. "شرح صحيح مسلم" للنووي (١/ ٨٥).