ذلك الخطيب وقف على (ومن يعصهما) وهذا تأويل لم تساعده الرواية فإن الرواية الصحيحة أنه أتى باللفظين في مساق واحد، وأن آخر كلامه هو فقد غوى، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه وعلمه صواب ما أخل به فقال:"قل ومن يعص الله ورسوله فقد غوى" فظهر أن ذمه له إنما كان على الجمع بين الاسمين في الضمير، وحينئذ يتوجه الإشكال ونتخلص عنه من أوجه: - أحدها أن المتكلم لا يدخل تحت خطاب نفسه إذا وجهه لغيره فقوله صلى الله عليه وسلم بئس الخطيب أنت منصرف لغير النبي صلى الله عليه وسلم لفظًا ومعنى. وثانيها أن إنكاره على ذلك الخطيب يحتمل أن يكون كان هناك من يتوهم التسوية من جمعهما في الضمير الواحد فمنع ذلك لأجله وحيث عدم ذلك جاز الإطلاق. وثالثها أن ذلك الجمع تشريف للملائكة ولله تعالى أن يشرف من شاء بما شاء ويمنع من مثل ذلك للغير كما قد أقسم بكثير من المخلوقات ومنعنا من القسم بها فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٥٦)} وكذلك أذن لنبيه صلى الله عليه وسلم في إطلاق مثل ذلك ومنع منه الغير على لسان نبيه. ورابعها أن العمل بخبر المنع أولى لأوجه لأنه تقعيد قاعدة والخبر الآخر يحتمل الخصوص كما قررناه، ولأن هذا الخبر ناقل والآخر مبقى على الأصل فكان الأول أولى، ولأنه قول والثاني فعل فكان أولى. والله أعلم اهـ من المفهم.
وقوله (فقد رشد) من الرشد وهو الصلاح وإصابة الصواب، ويقال فيه رشد رشدًا من باب تعب، ورشد يرشد من باب قتل كما في المصباح قال الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
وقوله (فقد غوى) من باب رمى من الغي كما مر أنه الصواب قال الشاعر:
ومن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائمَا
ولم يذكر المؤلف في هذا الباب إلا حديثين الأول حديث عمار ذكره للاستدلال على الجزء الأول من الترجمة، والثاني حديث عدي بن حاتم ذكره للاستدلال به على الجزء الأخير من الترجمة والله أعلم.