خص الآباء لأنه كان عادة الأبناء كذا في المرقاة، وفي سنن أبي داود والنسائي عن أبي هريرة:"لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد -أي بالأصنام- ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون".
قال القرطبي: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء لما فيه من تعظيمهم بصيغ الأيمان لأن العادة جارية بأن الحالف منا إنما يحلف بأعظم ما يعتقده، وإذا كان ذلك فلا أعظم عند المؤمن من الله تعالى فينبغي أن لا يحلف بغيره تعالى فإذا حلف بغير الله فقد عظّم ذلك الغير بمثل ما عظم به الله تعالى وذلك ممنوع منه وهذا الذي ذكرناه في الآباء جار في كل محلوف به غير الله تعالى، وإنما جرى ذكر الآباء هنا لأنه هو السبب الذي أثار الحديث حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر يحلف بأبيه وقد شهد لهذا المعنى قوله من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله وهذا حصر وعلى ما قررناه فظاهر النهي التحريم ويدخل في عموم هذا الحديث الحلف بالأشراف والسلاطين وحياتهم كما يوجد في بعض البلدان فلا ينبغي أن يختلف في تحريمه وكذا الحلف بما كان معظمًا في الشرع مثل والنبي صلى الله عليه وسلم والكعبة والعرش والكرسي وحرمة الصالحين فهو حرام داخل في عموم هذا الحديث.
(فإن قلت): كيف يحكم بتحريم الحلف بالآباء والنبي صلى الله عليه وسلم قد حلف بذلك؟ حين قال:"أفلح وأبيه إن صدق" وكيف يحكم بتحريم الحلف بغير الله وقد أقسم الله تعالى بغيره؟ فقال {وَالضُّحَى}{وَالشَّمْسِ}{وَالْعَادِيَات}{وَالنَّازِعَاتِ} إلى غير ذلك مما في كتاب الله تعالى من ذلك (قلت): فالجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه قد تقدم في الأيمان وحاصله أن ذلك يحتمل أن يكون صدر منه قبل أن يوحى إليه بهذا النهي، ويحتمل أن يكون جرى هذا على لسانه من غير قصد إلى الحلف به كما يجري في لغو اليمين الذي هو: لا والله، بلى والله. وأما الجواب عن قسمه تعالى بتلك الأمور فمن وجهين: أحدهما: أن المقسم به محذوف تقديره ورب الضحى ورب الشمس مثلًا قاله أكثر أئمة المعاني، وثانيهما: أن الله تعالى يُقسم بما يريد كما يفعل ما يريد إذ لا حكم عليه ولا حاكم فوقه ونحن المحكوم عليهم وقد أبلغنا حكمه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت، ومن كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله" فيجب الانقياد والامتثال لحكم ذي العزة والجلال اهـ من المفهم.