غرضه بيان متابعة أبي معاوية لجرير بن عبد الحميد (قالت) عائشة: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر) يعني في الفطر والنوم والنكاح كما سبق (فتنزه) أي تبرأ واجتنب (عنه) أي عن قبول رخصة ذلك الأمر تنطعًا في العبادة (ناس من الناس) أي رجال من الناس يعني من الأصحاب (فبلغ ذلك) أي تنزههم عن الرخصة (النبي صلى الله عليه وسلم فغضب) صلى الله عليه وسلم من ذلك (حتى بان) وظهر (الغضب) أي أثره (في وجهه) الشريف باحمراره بعد أن كان أبيض أزهر (ثم) بعدما بلغه خبرهم وغضب عليهم قام خطيبًا (قال: ما بال أقوام يرغبون) أي يعرضون (عما رخص لي فيه فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية).
قوله:(ما بال رجال) .. إلخ فيه الاجتناب عن المخاطبة الشخصية للمعتوبين رفقًا بهم وتحرزًا عن إهانتهم أمام الناس وهو الطريق المطلوب في ذلك، قوله:(لأنا أعلمهم بالله) .. إلخ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الكمال الذروة في جميع الصفات العلمية والعملية، وقد أشار إلى الأول بقوله أعلمهم، وإلى الثاني بقوله وأشدهم له خشية، وفيه جواز تحدث المرء بما فيه من فضل بحسب الحاجة إلى ذلك إذا كان تحدثًا لنعمة ربه وأمن من المباهاة والتعاظم، قال القرطبي: وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله لما خصه الله تعالى به في أصل الخلقة من كمال الفطنة وجودة القريحة وسداد النظر وسرعة الإدراك ولما رفع الله عنه من موانع الإدراك وقواطع النظر قبل تمامه ومن اجتمعت له هذه الأمور سهل عليه الوصول إلى العلوم النظرية وصارت في حقه كالضرورية، ثم إن الله تعالى قد أطلعه من علم صفاته وأحكامه وأحوال العالم كله على ما لم يطلع عليه غيره وهذا كله معلوم من حاله صلى الله عليه وسلم بالعقل الصريح والنقل الصحيح وإذا كان في علمه بالله تعالى أعلم الناس لزم أن يكون أخشى الناس لله تعالى لأن الخشية منبعثة عن العلم وبحسبه كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: ٢٨] اهـ من المفهم.