للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الجُحْفَةِ» (١).

فهذه الألفاظ تفيد وجوب الإحرام من هذه المواقيت، لمن مر عليها مريدًا النسك.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا أَوْ تَرَكَهُ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا (٢).

وأن مَنْ ترك الإحرام من الميقات، فقد تَرَك شيئًا مِنْ نُسكه، فيَلزمه دم.

قال ابن عبد البر: في هذه المسألة أقاويل:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْمِيقَاتَ. هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ.

وَقَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمِيقَاتِ إِذَا تَرَكَهُ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، فَلَا حَجَّ لَهُ. هَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

وَقَوْلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْمِيقَاتِ كُلُّ مَنْ تَرَكَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى تَمَّ حَجُّهُ، رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَهَلَّ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ. رُوِيَ هَذَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

فَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ شُذُوذٌ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ؛ لِأَنَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْآثَارِ، وَلَا تَصِحُّ فِي النَّظَرِ (٣).

والراجح: ما اتَّفق الأئمة الأربعة عليه، أن مَنْ تجاوز الميقات دون إحرام، ممن يريد النسك، فأَحْرَم من موضعه، ولم يَرجع إلى الميقات، أن حجه صحيح، وعليه دم.

وبه قال ابن عباس ، ولا يُعْلَم له مُخالِف من الصحابة. وقد تَلَقَّى الأئمة قول ابن عباس بالقَبول، وله أصل في الشريعة، حيث أُلْزِمَ المُحصَر بالدم، وأُلْزِمَ مرتكب المحظور بالفدية، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦].


(١) البخاري (١٣٣) واللفظ له، ومسلم (١١٨٢).
(٢) إسناده صحيح: أخرجه مالك (١٢٥٧) عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ، به.
(٣) «التمهيد» (١٥/ ١٤٩). وقال ابن حجر: وَذَهَبَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ إِلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ. وَمُقَابِلُهُ قَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ: لَا يَصِحُّ حَجُّهُ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَوْ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِالنُّسُكِ، سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ. «فتح الباري» (٣/ ٣٨٧).

<<  <   >  >>