للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المبحث الثالث: مِنْ حِكَم تشريع الإحرام:

الأولى: إِنَّ مِنْ أعظم فوائد العبادات التي شَرَعها الله لعباده- أنها تَغرس في نفوسهم الطاعة والاستسلام لله، واستشعار تعظيم الله ﷿، والنظام وحُسْن الترتيب في شئون الحياة، والمحافظة على الوقت وعلى المواعيد والدقة في الوفاء بها.

يَظهر ذلك واضحًا في توقيت الصلاة، والصيام إمساكًا وإفطارًا، وكذا جَعَل الله ﷿ للحج والعمرة والإحرام بهما أوقاتًا موقوتة وأماكن مُعيَّنة، يجب ألا يتعداها المسلم، ومَن تعداها كان مُخالِفًا ومتعديًا، وتَلزمه كفارة تذكيرًا له لئلا يتكرر ذلك منه.

الثانية: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْمُحْرِمِ مِنَ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ: الْبُعْدُ عَنِ التَّرَفُّهِ، وَالِاتِّصَافُ بِصِفَةِ الْخَاشِعِ، وَلِيَتَذَكَّرَ بِالتَّجَرُّدِ الْقُدُومَ عَلَى رَبِّهِ، فَيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى مُرَاقَبَتِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنَ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ (١).

الثالثة: مِنْ حِكَم عدم حصر الإحرام في مكان واحدٍ رَفْع الحرج عن المكلفين، فقد جَعَل الله ﷿ للحج خمسة أماكن متفرقة من كل جهات الحَرَم، ولم يَحصرها في مكان واحد؛ إذ لو حَصَرها في مكان واحد لوقع الناس في حرج عند الاجتماع إلى هذا الميقات وفي تَحَمُّل المشاق، والله قد رفع عن عباده الضِّيق والحرج.


(١) «فتح الباري» (٣/ ٤٠٤)، و «مغني المحتاج» (١/ ٥١٩)، و «الموسوعة الكويتية» (٢/ ١٢٩).
وأيضًا مِنْ حِكم الإحرام ما قاله الكاساني: وَفِي الْحَجِّ إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ:
أَمَّا إظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَلِأَنَّ إِظْهَارَ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ إِظْهَارُ التَّذَلُّلِ لِلْمَعْبُودِ. وَفِي الْحَجِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ فِي حَالِ إِحْرَامِهِ يُظْهِرُ الشَّعَثَ، وَيَرْفُضُ أَسْبَابَ التَّزَيُّنِ، وَالِارْتِفَاقِ، وَيَتَصَوَّرُ بِصُورَةِ عَبْدٍ سَخِطَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ، فَيَتَعَرَّضُ بِسُوءِ حَالِهِ لِعَطْفِ مَوْلَاهُ، وَمَرْحَمَتِهِ إِيَّاهُ. وَفِي حَالِ وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَصَى مَوْلَاهُ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَضَرِّعًا حَامِدًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ، مُسْتَغْفِرًا لِزَلَّاتِهِ مُسْتَقِيلًا لِعَثَرَاتِهِ. وَبِالطَّوَافِ حَوْلَ الْبَيْتِ يُلَازِمُ الْمَكَانَ الْمَنْسُوبَ إِلَى رَبِّهِ، بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُعْتَكِفٍ عَلَى بَابِ مَوْلَاهُ لَائِذٍ بِجَنَابِهِ.
وَأَمَّا شُكْرُ النِّعْمَةِ، فَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْضُهَا بَدَنِيَّةٌ وَبَعْضُهَا مَالِيَّةٌ، وَالْحَجُّ عِبَادَةٌ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَالِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ، فَكَانَ فِيهِ شُكْرُ النِّعْمَتَيْنِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ لَيْسَ إِلَّا اسْتِعْمَالُهَا. «بدائع الصنائع» (٢/ ١١٨).

<<  <   >  >>